-->

Translate

الأندلس بالكوميكس

الأندلس بالكوميكس

    فتح الأندلس 

    بعد دراسة المنطقة الجنوبية من الأندلس، في رجب عام 92 هجريًّا انطلق جيش طارق بن زياد عابرًا المضيق البحري إلى الأندلس ففتح في طريقه مدينة "شذونة" و"مورور" و"إستجة" ومنها أرسل سرايا إلى "قرطبة" و"غرناطة" و"مالقة" و"مرسية" ففتح بعضها حربًا وبعضها صلحًا، ثم أكمل طريقه إلى طليطلة ففتحهها.

    فأرسل موسى بن نصير رسالة إلى طارق بن زياد يأمره بالتوقف عن مواصلة الفتوحات حتى يأتيه في ثمانية عشر مقاتلًا، ودخل الأندلس وسلك طريقًا غير الطريق الذي سلكه طارق، فأعاد إخضاع "شذونة" وفتح "قرمونة" وفتح "إشبيلية" بعد حصار شهور، وكذلك فتح "ماردة" مصالحة بعد حصار شهور، وأرسل ابنه عبد العزيز إلى الغرب لفتح "لشبونة" ثم توجه إلى طليطلة للقاء طارق.

    اتحد الجيشان وتوجها إلى الشمال ففتحا "برشلونة" و"سرقسطة".



    الحياة السياسية في عصر الولاة

    ظلت الأندلس بعد الفتح ولاية تابعة للخلافة الأموية في المشرق حتى عام 138 هجريًّا أي لمدة 42 عامًا، وخلال هذه الفترة حكم الأندلس عشرون واليًا. 

    هؤلاء الولاة هم:  

    عبد العزيز بن موسى بن نصير

     أيوب بن حبيب اللخمي

    الحر بن عبد الرحمن الثقفي

    السمح بن مالك الخولاني

    عنبسة بن سُحيم الكلبي

    عذرة بن عبد الله الفهري

    يحيى بن سلامة الكلبي

    عثمان بن أبي نسعة الخثعمي

    حذيفة بن الأحوص القيسي

    الهيثم بن عبيد الكناني

    محمد بن عبد الله الأشجعي

    عبد الرحمن الغافقي

    عبد الملك بن قطن الفهري

    عقبة بن الحجاج السلولي

    بلج بن بشر القشيري

    ثعلبة بن سلامة العاملي

    أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي

    ثوابة بن سلامة الجذامي

    عبد الرحمن بن كثير اللخمي

    يوسف بن عبد الرحمن الفهري


    واثنان من هؤلاء الولاة -وهما عبد الرحمن الغافقي وعبد الملك بن قطن الفهري- حكما مرتين فأصبح عدد الولاة عشرين واليًا وفترات الولاية اثنين وعشرين فترة

    المجتمع في عصر الولاة


    كان المجتمع الأندلسي قبل الفتح مكونًا من الفينيقيين الذين نزلوها سنة 1200 ق.م وأقاموا فيها مستعمرات ومراكز تجارية وأنشأوا مدينة قادس، وحين ضعفت دولة الفينيقيين أتت موجات من القرطاجنيين ودخلوا إيبيريا في القرن السادس قبل الميلاد، وبعد ظهور الروم بدأوا يوجهوا أنظارهم نحو إيبيريا وهزموا القرطاجنيين عام209 ق.م، وبعد ضعف الإمبراطورية الرومانية استطاعت قبائل قوطية تسمى الوندال دخول إيبيريا والسيطرة عليها سنة 409 م، فكان المجتمع الأندلسي مكونًا من كل هذه الأجناس معًا في هيئة الجنس الإسباني.

    وبعد الفتح أضيف إلى هذه الأجناس الجنس العربي والجنس البربري.



    تعايشت هذه الأجناس المختلفة معًا وحدث تزاوج بين العرب والبربر والإسبان نتج عنه جيل مولَّد لديه ازدواج لغوي وثقافي.

    الأدب في عصر الولاة

    يعد الأدب في عصر الولاة امتدادًا لأدب المشرق، من قالوه هم المشارقة الفاتحون، فجاء معبرًّا عن صراعات القبلية واشتياقهم للموطنهم مثل قول أبي الأجرب جعونة:

    ولقد أراني من هواي بمنزل .. عال ورأسي ذو غدائر أفرعُ

    والعيش أغيد  ساقط    أفنانه .. والماء   أطيبه  لنا  والمرتـعُ

    وقول أبي الخطار حسام بن ضرار:

    أقادت بنـو مروان قيسًا دماءنا .. وفـي الله إن لـم تـنصفوا حكم عدلُ

    كـأنـكـم  لم تشـهدوا مـرج راهـط .. ولـم تعلـموا من كان ثم لـه الفضلُ

    وقيـناكـم حـر الوغى بصـدورنا .. وليـسـت لكم خـيل تُـعَـدُّ ولا رَجْــلُ

    فلما رأيتم واقد الحرب قد خبـا .. وطاب لـكـم مـنا المـشـارب والأكـلُ

    تغـافـلتُم عـنا كـأن لـم يـكـن لنا .. بـلاء  وأنـتـم -مـا عـلـمـت- لها فُـعـلُ

    فلا تجزعوا إن عضت الحرب مرة .. وزلت على المرقاة بالقدم النعلُ

    تأسيس الإمارة

    بعد فرار عبد الرحمن بن معاوية من العباسيين في المشرق دخل الأندلس ليجد دولة واهية، واليًا ضعيفًا يستغله مستشاره الصميل بن حاتم القيسي في صراعاته مع اليمانية، هذه الصراعات القبلية مع صراعات العرب والبربر تكاد توقع الأندلس في شباك الممالك الشمالية المتربصة بها، فحارب عبد الرحمن بن معاوية الوالي يوسف الفهري ومستشاره الصميل بن حاتم عند المصارة قرب قرطبة فانتصر عبد الرحمن ودخل قرطبة يوم الأضحى عام 138 هجريًّا.

    وسمي عبد الرحمن بن معاوية بـ "عبد الرحمن الداخل" لأنه دخل الأندلس وحده فأخذها وقضى على خمس وعشرين ثورة خلال إمارته منها ثورة ابن المغيث اليحصبي الذي دعا للعباسيين في الأندلس، وثورة ابن عبد الواحد الذي ادعى النبوة، وثورة سليمان بن الأعرابي الذي استعان بـ "شارلمان" ليغزو الأندلس، قضى على كل هذه الثورات ليترك إمارة مستقرة قوية لخلفائه

    أحداث عصر الإمارة

    كان عبد الرحمن شخصًا قويًّا ذكيًّا، شهد لها بذلك عدوه العباسي، فقد  جلس أبو جعفر المنصور يومًا في أصحابه، فسألهم: «أتدرون من هو صقر قريش؟»، فقالوا له: «أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء». قال: «ما صنعتم شيئًا»، قالوا: «فمعاوية»، قال: «ولا هذا»، قالوا: «فعبد الملك بن مروان»، قال: «لا». قالوا: «فمن يا أمير المؤمنين»، قال: «عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف. يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه. وعبد الملك ببيعة تقدمت له. وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته. وعبد الرحمن منفردًا بنفسه، مؤيدٌ برأيه، مستصحبًا عزمه.



    عهد عبد الرحمن الداخل إلى ابنه هشام بالولاية على الرغم من أن أخاه سليمان كان أسن منه، وقبل وفاة الداخل أوصى ولده عبد الله بأخذ البيعة لهشام الذي كان في ولايته في ماردة.

    وفي 24 ربيع الآخر 172 هـ توفي الداخل، فأخذ البلنسي البيعة لهشام الذي دخل قرطبة في أول جمادى الأول 172 هـ. لم يرض أخاه الأكبر سليمان بولايته، فدعا لنفسه في طليطلة التي كان والده قد ولاه عليها، ثم سرعان ما لحق أخاه عبد الله البلنسي بأخيهما سليمان في طليطلة، فبعث هشام بجيش إلى طليطلة لإخماد ثورتيهما، وهزمهما ففر سليمان إلى كورة تدمير، وآثر البلنسي العودة إلى قرطبة وطلب العفو من هشام فعفا عنه. ثم بعث هشام بجيش بقيادة ولده معاوية، لمطاردة أخيه سليمان، فإضطر سليمان لطلب العفو والأمان، فأجابه هشام إلى ذلك على أن يعبر ببنيه إلى المغرب، ثم لحق به البلنسي لينتهي بذلك تمرد أخويه عام 174 هـ.


    بويع الحكم بن هشام بالإمارة بوصية والده في 8 صفر 180 هـ

    وفي 13 رمضان 202 هـ، قام أهل قرطبة -خاصة سكان حي الربض الجنوبي- بثورة عظيمة ضد الحكم بن هشام، نتيجة زيادة الضرائب، وقيام الحكم بقتل عشرة من رؤوس المدينة وصلبهم، ثم قيام مملوك للحكم بقتل أحد أهل المدينة لأنه طالبه بثمن صقل سيفه، فهاج أهل قرطبة -وخاصة أهل الربض الجنوبي- وتوجهوا نحو القصر لإسقاط الحكم بن هشام، فقاومهم الحكم بكل ما أوتي من قوة، فاستعد الحكم وحراسه لصدهم، ثم بعث قائده وابن عمه عبيد الله البلنسي وحاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد بن المغيث في قوة قاتلت الثائرين، وطردتهم من فناء القصر، ثم واصلت القتال حتى دخلت ربض شقندة وأشعلت فيه النار، فتفرق الثائرين ليدركوا بيوتهم المحترقة. ولم تنتهِ الثورة إلا بعد ثلاثة أيام بعد أن أفنى عددًا كبيرًا من الثائرين، ثم أمر الحكم بصلب ثلاثمائة من الثوار وهدم الربض الجنوبي بأكمله وتشريد أهله خارج قرطبة، حيث تفرقوا بين المدن وهاجر بعضهم إلى المغرب والإسكندرية وقد عرفت تلك الأحداث بواقعة الربض، وإليها يرجع تلقيب الحكم بن هشام بـ "الحكم الربضي".


    قيل عن شخصية الحكم: إنه كان طاغية، شجاعًا، حازمًا، شديد الوطأة على خصومه والخارجين عليه، ومع ذلك تحدوه نزعة للإنصاف والعدل.


    بويع عبد الرحمن بن الحكم المعروف بـ" عبد الرحمن الأوسط" بالإمارة خلفًا لوالده في 27 ذي الحجة 206 هـ. 

    وقد عرف عبد الرحمن بولعه بالنساء، وخاصة عشقه لجاريته طروب أم ولده عبد الله. إضافة لحبه لسماع المغنين. كما كان شغوفًا بجمع الكتب، حتى أنه أرسل شاعره عباس بن ناصح إلى المشرق للبحث عن الكتب القيمة واستنساخها، وهي النواة التي تكونت منها بعد ذلك منها مكتبة قرطبة.


    وفي بداية عهد عبد الرحمن بن الحكم دخل زرياب الأندلس، بعد أن كان قد أخذ الإذن بالدخول من الأمير الحكم بن هشام قبل وفاته.

    وزرياب هو أبو الحسن علي بن نافع الموصلي، موسيقي ومطرب عذب الصوت من بلاد الرافدين من (عاصر الخليفة العباسي هارون الرَّشيد). كانت له إسهامات كبيرة و عديدة وبارزة في الموسيقى والشرقية. لُقِّب بـزرياب لعذوبة صوته ولون بشرته القاتم الداكن ، وهو اسم طائر أسود اللون عذب الصوت.

     قام زرياب بنقل الكثير من الأشياء إلى الأندلس غير الغناء والموسيقى، فهو الذي نقل أجمل ما في بغداد إلى قرطبة ومنها إلى الأندلس. وهو وحده الذي نقل أحسن الأقمشة وأزهى الألوان من بيوت الخلفاء إلى بيوت النبلاء، وجعل للصيف ثيابًا وللصيف ثيابًا ولم يكن أثر زرياب مقصورًا على تطوير الموسيقى والغناء بالأندلس، وتجديده فيهما، وسحر أهلها بحسن صوته وجمال أدائه وإعجاز فنه، وتبحره فيه، حتى قيل أن ما حفظه منه تجاوز الألوف من الألحان والأغاني. بل لقد فتن الناس فوق هذا كله بآدابه وسعة ثقافته وتنوع معرفته.

     وابتكر فن الذوق العام والذى يسمى اليوم بـ “الإتيكيت” فكان يلفت الأنظار إلى طريقته في الكلام والجلوس إلى المائدة أيضًا، وكيف يأكل على مهل ويمضغ ويتحدث ويشرب بأناقة. وكان يضع على مائدته الكثير من المناديل، هذه لليدين وهذا للشفتين وهذا للجبهة وهذا للعنق، وهو أول من لفت أنظار النساء إلى أن مناديل المرأة يجب أن تكون مختلفة اللون والحجم وأن تكون معطرة أيضًا. 

     أدخل زرياب وجبات الطعام الثلاثية الأطباق: تبدأ بالحساء، ثم يتبعها الطبق الرئيسي، أما من اللحم، أو السمك، أو الطيور، ثم تختتم بالفواكه والمكسرات، وأسس أول معهد للموسيقى في العالم في مدينة قرطبة. وكان له ذوقه الخاص في تنسيق الموائد وتنظيمها واتخاذ الأكواب من الزجاج الرقيق بدلًا من المعادن، واصطناع الأصص للأزهار من الذهب والفضة. وقد استحسن الناس ذوقه حتى في الأطعمة فدلهم على صنوف محببة منها لم تكن الأندلس تدري شيئًا عنها كالنوع المسمى على حد تعبيرهم (النقايا) وهو مصطنع بماء الكزبرى محلى بالسنبوسق (نوع من المعجنات المحشوة باللوز والفستق والسكر يشبه القطائف). وهو أول من أدخل إلى المطعم الإسباني طعام (الهليون) وهي بقلة لم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله، وقد سموها بلسانهم (الاسفراج). ومن تلك الأطعمة ما صار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبًا إليه، معروفًا به. وإلى الآن ينسب نوع من الحلوى إليه في الشرق يسمونه (زلابية) وهو تحريف عن (زريابية).


    بداية من عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن بدات موجة من الثورات والصراعات مرورًا بالأمير المنذر بن محمد وعبد الله بن محمد حتى عبد الرحمن الناصر، فكانت سيطرة السلطة المركزية على قرطبة وما حولها فقط.

    وكانت أقوى هذه الثورات ثورة عمر بن حفصون التي استمرت من سنة 267 هـ 303 هـ، وكان قد هجر عمر بن حفصون أسرته وهو في سن صغيرة، والتف حوله جماعة من الفاسدين، وألّفوا عصابة ونزلوا بجبل ببشتر، واتخذه قاعدة ينطلق منها بهجماته على أطراف كورة رية، ثم أعلن تمرده وحبس بعض حكام المدن وتنصر وسمى نفسه بـ"صمويل" ليحصل على الدعم من ممالك الشمال، وكذلك حصل على الدعم من الفاطميين.

    الأدب في عصر الإمارة

    ظل الأدب في عصر الإمارة امتدادًا لأدب المشرق وإن بدأ يظهر فيه خصائص الأندلسية، لكنهم ظلوا يبدءون القصائد بوصف الرحلة وذكر الناقة والدعاء بالسقيا، وهذه أشياء تتناسب مع البيئة العربية الصحراوية، فالأندلس بها أنهار فلا معنى للدعاء بالسقيا، وكذلك لم يكن بها إبل قبل عصر المرابطين، وإنما ذكرت هذه الأشياء في هذا الشعر على سبيل التأثر بالثقافة المشرقية، مثل قول حسانة التميمية:

    إلـى ذي النـدى والمـجـد سـارت ركـائـبي .. عـلـى شـحـط تصـلى بـنار الهـواجر

    ليــجــبــر صــدعــي إنــه خـيـر جــابــر .. ويـمنـعــنـي مــن ذي الـظـلامــة جــابــر

    فــإنــي وأيــتامــي بـقـبـضـة كــفــه .. كـذي ريـش اضـحـى فـي مـخـالـب كـاسر

    المجتمع في عصر الإمارة

    كان عبد الرحمن الداخل مؤسس الإمارة الأموية في الأندلس من أب عربي أموي وأم بربرية نفزية وأنجب ابنه والأمير من بعده هشاما من جاريته الإسبانية "حلل" وكذلك كان أكثر أهل الأندلس؛ فهم ليسوا عربا خلصا، ولا بربرا خلصا، ولا إسبانا خلصا، بل هم جنس أدق ما يطلق عليه وأفضله أنهم جنس أندلسي


    كان الأندلسيون متمايزين عن المشارقة، فهم لا يلبسون العمائم، يقول المقري نقلا عن ابن سعيد: "وأما  زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم، لا سيما في شرق الأندلس ..."

    ومما دار على ألسنتهم من أخبار محمد بن بشر أنه أتاه رجل لا يعرفه، فلما نظر إلى زي الحداثة من الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه لم يتوهم عليه القضاء، فقال لبعض من يجلس إليه: دلوني على القاضي، فقيل له: ها هو ذا وأشير له إلى القاضي، فقال لهم: إني رجل غريب وأراكم تستهزءون بي؛ أنا أسألكم عن القاضي وأنتم تدلونني على زامر، فزجر من كل ناحية، وقال له ابن بشير: تقدم فاذكر حاجتك، فلما أيقن الرجل أنه القاضي تذمم واعتذر، ثم ذكر حاجته فوجد من العدل والإنصاف فوق ظنه.

    كما سلكوا مسلكا مختلفا في التعليم، يقول ابن خلدون: "لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس، قال: لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية وفي التعليم ضرورة لعدم فساد اللغة، ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة. 

    وكذلك خالفوا عادة المشارقة في ثياب الحداد فلبسوا اللون الأبيض واعتزوا بهذا الاختلاف كأنهم يؤسسون لأنفسهم أزياءهم المعبرة عنهم، ويتضح ذلك في قول الشاعر:

    لبستم  في  مآتمكم  بياضا .. فجئتم  منه  في  زي الغريب 

    صدقتم فالبياض لباس حزن .. ولا حزن أشد من المشيب

    إعلان الخلافة


    في عام 300 هجريًّا عندما تولى الأمير عبد الرحمن بن محمد الحكم كانت البلاد في أضعف ما يكون، فلم تكن السلطة المركزية تحكم سيطرتها إلا على قرطبة وما حولها، ومنها بدأ عبد الرحمن بن محمد يحيل الضعف الدولة إلى قوة.

    أول ما فعله عبد الرحمن بن محمد بعزل من لا يصلح لمنصبه وتعيين ذوي الكفاءة والمقدرة وحسن السيرة، ثم أعلى من قدر العلماء وجعل منزلتهم أعلى من منزلته، واجتهد في تطبيق بنود الشريعة على نفسه أولًا قبل أن يطبقها على العامة حتى استقام له الشأن الداخلي في قرطبة وصلح.

    ثم بدأ بعد ذلك نحو المدن الأخرى بحملات عسكرية لإخماد الثورات والتمردات حتى قضى عليها جميعًا

    في هذه الأثناء كان عبد الرحمن بن محمد أدرك المخاطر الخارجية المحطية بالأندلس من ناحية الممالك الشمالية المسيحية، والمخاطر المحيطة بسلطة الأمويين في ظل انحصار الخلافة العباسية في بغداد في يد بعض الوزراء وظهور الخلافة الفاطمية الشيعية في المغرب وندائها بأن يدخل المسلمون تحت طاعتها بصفتها الخلافة الفعلية في العالم الإسلامي، وهذا يهدد المذهب السني في الأندلس أيضًا.رأى عبد الرحمن بن محمد أنه لا بد من إعلان الخلافة الأموية في الأندلس ليلتف حولها المسلمون ويدافعون عنها، وأن الدولة الأموية أحق بالخلافة من الدولة الفاطمية الدخيلة.وفي يوم الجمعة الثاني من ذي الحجة من عام 316 هـجريًّا أمر عبد الرحمن بأن يُخاطب بصفة رسمية بلقب أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر لدين الله القائم بأمر الله ثم اقتصر على الناصر لدين الله، ودعا له القاضي أحمد بن أحمد بن بقي بن مخلد على منبر المسجد الجامع في قرطبة بذلك، وأمر عبد الرحمن ولاته وقادته في المدن والكور بأن يعلنون ذلك المرسوم، ومنذ ذاك الحين ضربت ألقاب الخلافة على النقود.

    أحداث عصر الخلافة

    كان عبد الرحمن الناصر كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب، غزا بنفسه بلاد الروم اثنتي عشرة غزوة، ودوخهم، ثم قعد عن الغزو بنفسه وصار يردد الصوائف في كل سنة فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الإفرنج ما لم يطؤوه من قبل في أيام سلفه ومدت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان وأوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من روما والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يعن في مرضاته ووصل إلى سدته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وبنبلونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية فقبلوا يده والتمسوا رضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه، فوضع عليهم الخراج، ودانت له ملوكها، فكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف رجل يصنعون في بناء الزهراء التي أقامها لسكناه على فرسخ من قرطبة.


    يعد تأسيس مدينة الزهراء أعظم أعمال عبد الرحمن الناصر في مجال العمارة والبناء.

     بنيت الزهراء شمالي غرب قرطبة بنحو خمسة أميال، لتكون قاعدة ملكية جديدة بعدما ضجت قرطبة بساكنيها وازدحموا بها. وعن سبب تسميتها، ساق لنا المقري قصة في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" عن سبب ذلك، فقد قال إن سبب تسمية المدينة باسمها أن عبد الرحمن الناصر ورث عن جارية له مالاً كثيرًا، فأمر أن يستخدم هذا المال في افتداء أسرى المسلمين، فلم يجدوا من يفتدوه بهذا المال. حينئذ، أشارت عليه جارية له تسمى "الزهراء"، بأن يبتني تلك المدينة وأن يسميها باسمها لتكون سكنًا خاصًا لها.


     قال الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن الناصر: «كان لا يمل من الغزو، فيه سؤدد وحزم وإقدام، وسجايا حميدة. أصابهم قحط، فجاء رسول قاضيه منذر البلوطي يحركه للخروج، فلبس ثوبا خشنًا، وبكى واستغفر، وتذلل لربه، وقال: ناصيتي بيدك، لا تعذب الرعية بي، لن يفوتك مني شيء. فبلغ القاضي، فتهلل وجهه، وقال: إذا خشع جبار الأرض، يرحم جبار السماء، فاستسقوا ورحموا. وكان -رحمه الله- ينطوي على دين، وحسن خلق ومزاح.


    يعد كل من الحكم الربضي والحكم المستنصر من أهم حكام الأندلس، فالربضي أكمل ميسرةأبيه وحده في تدعيم وتقوية الإمارة، والمستنصر أكمل ميسرة أبيه في تدعيم وتقوية الخلافة


    في عهد الحكم المستنصر خشي الملوك المسيحيون من استعدادات المسلمين للغزو، فتحالف سانشو الأول ملك ليون مع فرنان كونت قشتالة وجارسيا سانشيز الأول ملك نافارا وبورل الثاني كونت برشلونة لقتال المسلمين.

    فخرج الحكم في صيف 352 هـ، فحاصر قلعة شنت إشتيبن في قشتالة وأسقطها، وفشل الكونت فرنان في مواجهتهم فطلب الصلح ثم نكث به فهاجم المسلمون بلدة أنتيسة.


    كان الحكم محبًا للعلم، ضليعًا في معرفة الأنساب، وملأ الأندلس بجميع كتب العلوم، حتى أن خرانة كتبه كان لها 44 فهرس كل منها يحتوي على 50 ورقة لا تحتوي سوى على أسماء الكتب التي بالخزانة،وقلّما خلا كتاب في مكتبته إلا وعليه تعليق بخط يده، وكانت هذه التعليقات موضع تقدير واستفادة من العلماء الذين عاصروه وأتوا بعده، فاعترفوا له بالعلم وسعة الاطلاع. وقد بذل الحكم الكثير من الأموال لاقتناء تلك الكتب التي كان يبعث رسله للبلدان لجلبها.

    ولما ضاقت مساحات القصر عن استيعاب العدد العظيم من الكتب الواردة إليها باستمرار، أنشأ الحكم على مقربة من القصر مكتبة قرطبة، التي وصلت محتوياتها إلى 400 ألف مجلد، وبلغ اهتمامه بفريد الكتب أنه بعث لأبي الفرج الأصفهاني بألف دينار، ليحصل على نسخة من كتاب الأغاني قبل أن يشيع في العراق.

    اهتم الحكم أيضًا بالعلوم الدينية، فكان يستجلب العلماء ورواة الحديث من الأقطار، وكان يحضر مجالسهم ويروي عنهم.

    بل وأمر في عهده بقطع الخمر من الأندلس وأمر بإراقتها وتشدد في ذلك، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع أعماله، فقيل له إنهم يعملونها من التين وغيره، فتوقف عن ذلك.

    كما كان الحكم يهتم بصون رعيته، ففي 25 جمادى الأول 361 هـ، أصدر الحكم أمرًا بمطاردة الشعراء الهجائيين والقبض عليهم؛ صونًا لأعراض الناس من ألسنتهم، فأمسكوا جملة منهم من بينهم يوسف بن هارون البطليوسي وزجهم في السجن، إلا أنه رقّ لحالهم وأطلقهم في أواخر شعبان من العام نفسه.

    كما كان الحكم أديبًا له كتب منها كتابه "أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب"، كتب أخرى جمعت أخبار شعراء الأندلس.

     أيضًا كان الحكم شاعرًا له أبيات مشهورة منها البيتين الذي قالهما في زوجته أم هشام صبح البشكنسية، وهو منصرف إلى إحدى غزواته:

    عجبت وقد ودّعتها كيف لم أمت .. وكيف انثنت عند الفراق يدي معي

    فيا مقلتي العبرى  عليها اسكبي دمًا .. ويا  كبدي الحرّى عليها تقطعي

    وقال أيضًا:

    إلى  الله  أشكو في شمائل  متْرف .. عليَّ  ظلوم  لا يدين  بما  دنتُ

    نأت عنه داري فاستزاد صدودَه .. وإني على وجدي القديم كما كنتُ

    ولو  كنت  أدري  أن شوقي  بالغ .. من  الوجد ما  بلّغتُه لم أكن بنْتُ






    في ربيع الأول 364 هـ، اعتلت صحة الحكم واحتجب حتى نهاية ربيع الآخر، فأعتق مئة عبد، ثم أسقط سدس الضرائب على رعاياه في الأندلس حمدًا لله على انتهاء مرضه، وأمر بأن تؤخذ البيعة لولده هشام فأخذت في القصر في غرة جمادى الآخرة 365 هـ، لكن علّته تواصلت حتى توفي في 3 صفر 366 هـ، ولم يعقب من الأبناء سوى عبد الرحمن الذي مات طفلاً وهشام ولي عهد أبيه وعمره 12 عاما.

    حرص الفتيان فائق وجؤذر كبيرا صقالبة قصر الخلافة على كتمان خبر الوفاة، حيث كانت لهما خطة مفادها تنحية وليّ العهد الصبي هشام، وتولية عمه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بدلاً منه.

    استدعى الفتيان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي وأنبآه بخبر وفاة الخليفة، ومخططهما بتولية المغيرة، تظاهر المصحفي باستحسان رأيهما لخشيته من نفوذ الصقالبة الذين يبلغ عددهم زهاء الألف في القصر، وما أن انصرف حتى استدعى كبار رجال الدولة وشيعته من زعماء البربر، وعرض عليهم مخطط الصقالبة. استقر المجتمعون على ضرورة التحرك السريع لإفشال هذا المخطط، لكي لا تقوى شوكة الصقالبة في الدولة، خاصة وأن الخليفة المقترح مرشحهم وسيكون لهم الحظوة عنده وستكون لهم مقاليد الأمر. اقترح البعض قتل المغيرة بن عبد الرحمن نفسه لقطع السبيل أمام الصقالبة، وهو ما قامت جماعة منهم بقيادة محمد بن أبي عامر بتنفيذها على وجه السرعة، لينتهي الأمر بمقتل المغيرة في يوم وليلة، وتنصيب ولي العهد هشام خلفًا لأبيه الراحل، وانتهاء محاولة الصقالبة السيطرة على الخلافة.

    بتولي هشام الخلافة وهو في سن الثانية عشر، أصبحت أمه صبح البشكنجية وصية على ملك ولدها، وأصبحت السلطة الفعلية في أيدي رجلين وهما الحاجب جعفر المصحفي وقائد الشرطة محمد بن أبي عامر الذي كان على صلة وطيدة بأم الخليفة الجديد مكّنته هذه العلاقة من الانقلاب على الحاجب المصحفي بالتدريج خلال عامين انتهت بمرسوم استصدره ابن أبي عامر باسم الخليفة يأمر بزجّ المصحفي وآله في السجن ومصادرة أموالهم، وانتهى به الأمر مقتولاً في السجن بعد ذلك بأعوام، وأصبح ابن أبي عامر حاجبا لهشام بن الحكم.

    ثم أقصى ابن أبي عامر أم الخليفة نفسها وحجر على الخليفة هشام ومنعه من الاختلاط بالناس أو الخروج من قصره إلا بإذنه

    وعندما بلغ هشام المؤيد سن الرشد لم يمارس سلطته واستمرت حالته كخليفة مسلوب الإرادة طوال حياة ليس له من الخلافة إلا اللقب والدعاء على المنابر وموكب إن خرج فيه ألبسه المنصور ابن أبي عامر ثوبًا يخفي شخصيته ومن حوله جند كثيف يمنع أحد من رؤيته أو الاقتراب منه.




    أعطى المنصور اهتمامًا كبيرًا للجيش، فعنى بتنظيمه، واستقدم قوات تعد بالألوف من المرتزقة من قبائل زناتة وصنهاجة وغيرهما من البربر ومن الجند النصارى، وكون من هؤلاء جميعًا جيشًا ضخمًا ضمن ولاءه له بجوده ووفرة عطاياه، واشتهر المنصور بكثرة غزواته على الممالك الشمالية ويتحدث عنها ابن خلدون فيقول:

    "غزا ابن أبى عامر اثنتين وخمسين غزوة فى سائر أيام ملكه، لم ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش ولا أصيب له بعث ولا هلكت له سرية".

    وكانت العادة أن تكون الغزوات صائفة منذ أيام عبد الرحمن الناصر، فجعل المنصور له غزوة صائفة وغزوة شائتة. 

    كان عبد الرحمن بن محمد أول من تسمى بالخليفة الناصر في الأندلس، وكذلك ابن أبي عامر أول من تسمى بالملك المنصور.

    والناصر بنى مدينة الزهراء الملكية والمنصور بنى مدينة الزاهرة الملكي


    وتميز المنصور بأنه كان شغوفًا بالعلم والأدب، محبا للعلماء والأدباء والشعراء ويناظرهم ويشترك معهم فى نظم الشعر ويغدق عليهم، ساعده على ذلك نشأته فى بيت علم وأدب، وبراعته فى علوم الشريعة وفنون الأدب خلال فترة صباه، فحرص على نشر العلم والمعرفة بين طبقات الشعب، فأنشأ كثيرًا من دور العلم فى قرطبة وأنفق عليها، وكان يزور المساجد والمدارس، ويمنح المكافآت للمتفوقين من الطلاب، كما حرص على جمع الكتب ومكافأة أصحابها، وقد منح "صاعد البغدادي" 500 دينار مكافأة له على كتابه "الفصوص"، ولكنه كان يكره الفلسفة، ويرى أنها مخالفة للدين كما كان يبغض التنجيم ويطارد المنجمين، وقد استخرج من المكتبة الأموية جميع كتب الفلاسفة والدهريين وأحرقها بحضرة كبار العلماء ليكسب تأييدهم وتأييد العامة، وما فعله أمر خطير تسبب فى ضياع ثروة علمية عظيمة.


    بعد وفاة الحاجب المنصور في 27 رمضان 392 هـ، استصدر عبد الملك من الخليفة المؤيد بالله مرسومًا بتوليه الحجابة، وواصل عبد الملك سياسة أبيه في حجره على الخليفة، والتخلص من معارضيه.

     سعى عبد الملك في بداية عهده لاسترضاء الشعب، فأسقط سدس الجباية عن سائر الناس.


    واصل عبد الملك سياسة أبيه في غزواته المتوالية على الممالك المسيحية في الشمال، والتي بدأها بحملة على الثغر الإسباني في شعبان 393 هـ، توجّه بها نحو طليطلة فمدينة سالم، حيث انضم إليه الفتى واضح العامري والي الثغر الأوسط، وقوة مسيحية أرسلها حليفه سانشو غارسيا كونت قشتالة، ثم تحرك نحو الثغر الأعلى حيث ظل في سرقسطةلأيام، ثم توجه إلى الثغر الإسباني وأرسل قوة بقيادة واضح فافتتحت حصن حصن مدنيش، وحاصر هو حصن ممقصرة وافتتحه، ثم عاث جيشه في كونتية برشلونة وعاد إلى قرطبة في 5 ذي القعدة 393 هـ بالغنائم والسبي. وفي العام التالي، خالف سانشو غارسيا كونت قشتالة العهد الذي كان بينه وبين الحاجب المنصور، فكانت وجهة عبد الملك الثانية إلى أراضي قشتالة التي اجتاحها دون مقاومة من سانشو، الذي أسرع بعد عودة عبد الملك إلى قرطبة بنفسه يطلب تحديد الصلح.

    أتبع عبد الملك حملته تلك بحملة في العام التالي 395 هـ على أراضي مملكة ليون، لم يلق فيها مقاومة تذكر، وعاد منها بغنائمه إلى قرطبة. وفي أواخر عام 396 هـ، خرج متوجهًا إلى سرقسطة منها إلى وشقة فبربشتر متوجهًا لغزو بنبلونة عاصمة مملكة نافارا إلا أنه لم يكمل غزوته بعد أن صادفته ظروف جوية سيئة حالت بينه وبين استكمال غزوته.

    وفي عام 397 هـ، نما إلى علمه تجمع تحالف من قوات سانشو غارسيا كونت قشتالة وألفونسو الخامس ملك ليونوسانشو الثالث ملك نافارا، فبادر بالخروج إليهم واخترق أراضي قشتالة، والقى الجيشان قرب قلونية، وانتهت المعركة بانتصار كبير لجيش عبد الملك على إثره طلب عبد الملك من الخليفة منحه لقب "المظفر بالله"، فتم له ذلك وأصبح يخاطب رسميًا بلقب "الحاجب المظفر سيف الدولة أبي مروان عبد الملك بن المنصور"، كما طلب من الخليفة أن يولي ابنه الطفل محمد الوزارة ويكنّيه بكنية جده "أبي عامر"، ومنحه لقب "ذي الوزارتين".

     وفي صفر 398 هـ، خرج في حملة اخرى لتأديب سانشو غارسيا هاجم فيها حصن شنت مرتين وهدمه وقتل الجنود وأسر من فيه من النساء والأطفال، وعاد بهم إلى قرطبة. ثم خرج في شوال 398 هـ، في حملته الأخيرة إلا أنه أصابه مرض مفاجئ في مدينة سالم، فعاد أدراجه إلى قرطبة، وما لبث أن توفي في 17 صفر 399 هـ وخلفه أخوه عبد الرحمن، وسط تكهنات بأنه مات مسمومًا بتحريض من أخيه غير الشقيق عبد الرحمن شنجول.


    فترة الفتنة في عصر الخلافة

    في عام 399 هجريًّا عندما تولى الحجابة عبد الرحمن شنجول الابن الثاني للمنصور بن أبي عامر استصدر من الخليفة مرسومًا له بولاية العهد وأجبر الناس على خلع العمامة الأندلسية وارتداء العمامة البربرية، وعين ابنه الصغير حاجبًا ولقبه بسيف الدولة، وهذا ما جعل الجميع يسخط عليه ويفكرون في التخطيط للثورة عليه.


    وكان السبب الرئيسي للثورة هو استبداد بنى عامر وقهرهم للناس استنادًا إلى قوة قوامها البربر والصقالبة، ثم كانت ولاية شنجول للعهد واستئثاره برسوم الخلافة والحكم هى الشرارة التى انتقلت منها نيران الثورة إلى كل العناصر الناقمة، وعلى رأسهم بنو أمية، وكان المخطط للثورة والمتابع لمراحل تنفيذها "الزلفاء" والدة عبد الملك أخي شنجول غير الشقيق -التي اعتقدت أن «شنجول» سمَّ ابنها- ثم فتى أموي اسمه "محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر" كان عبد الملك قد أعدم أباه.


    لعب اسم "عبد الرحمن" دورا هاما في تاريخ الأندلس بداية من عبد الرحمن الغافقي فاتح جنوب فرنسا ومرورا عبد الرحمن الداخل مؤسس الإمارة الأموية في الأندلس وعبد الرحمن الأوسط الحاكم القوي الذي حافظ على دولته وأسس النواة الأولى  للمكتبة الأموية في قرطبة وحتى عبد الرحمن الناصر مؤسس الإمارة، إلا أن عبد الرحمن ابن أبي عامر كان سببا في الفتنة التي أصابت الأندلس ولم تدم سلطته إلا شهورا. 



    وفى يوم 16 من جمادى الأولى 299 هـجريًّا جاءت الأنباء بأن شنجول عبر بجيشه إلى أرض النصارى، فقام محمد بن هشام بإنزال ضربته، وهجم على قصر قرطبة وقتل صاحب المدينة، والتف حوله الساخطون، ثم اقتحم سجن العامرية وأخرج من فيه، واجتمع حوله المروانية وانضم إليه الناس من كل حدب وصوب، وبعد أن سيطر ابن عبد الجبار على القصر واستولى على كل ما فيه من سلاح وغيره، طلب من الخليفة هشام أن يخلع نفسه فوافق، وانتهت بذلك خلافته الصورية التى دامت 33 سنة وتولى الأمر «محمد بن هشام بن عبدالجبار» وتلقب بالمهدي في 17 من جمادى الآخرة 399 هـجريًّا وجاءه الناس مهنئين، وما شعروا أن تلك هي بداية الفتنة التي ستطيح ليس بالدولة العامرية وحدها بل وبالخلافة بكل ما تمثله.


    وفي اليوم التالي قام الثائرون بهدم مدينة الزاهرة وقصورها بأمر من المهدي، وأحست الحامية المنوط بها الدفاع عنها أن المقاومة غير مجدية ففتحوا أبواب المدينة شريطة أن يؤمنهم المهدي، وتم نهب القصور والاستيلاء على كل ما كان فيها من متاع وجواهر، ولم يكتف المهدي بذلك وإنما قام بهدم كل مباني مدينة الزاهرة وأسوارها بعد أن استولى على كل ما فيها من خزائن وأموال وتحف حرصًا منه على إزالة كل آثار بنى عامر، وأصبحت المدينة أطلالًا، وتحولت إلى أثر بعد عين.


    بنو حمود هي أسرة من الأدارسة نازعت الأمويين على خلافة المسلمين في الأندلس في فترة فتنة الأندلس؛ بعد أن خلع محمد المهدي بالله هشامًا المويد بالله عام 399 هـ، أساء المهدي معاملة البربر الذين كانوا عماد جيش العامريين، نظرًا لما كان يكنه من كراهية للعامريين المتسببين في مقتل والده.

    تسببت تلك المعاملة السيئة في التفاف البربر حول الأموي سليمان المستعين بالله المطالب بعرش الأندلس واستطاعوا مساعدته على انتزاع العرش عام 403 هـ. 

    أراد سليمان أن يبعد البربر عن قاعدة حكمه في قرطبة لما رأى اشتداد شوكتهم، ففرّقهم على كور الأندلس، فأقطع كل زعيم منهم إحدى تلك الكور، فكان من نصيب علي بن حمودحكم سبتة وأحوازها، فيما أقطع سليمان القاسم بن حمودحكم الجزيرة الخضراء.

    لم تمض فترة طويلة حتى اتفق علي بن حمود مع أخيه القاسم على أن يتبادلا ولايتاهما، ثم ادعى علي أن هشام المؤيد بالله، كتب له بولاية عهده، وجمع جيشًا هزم به سليمان، وقتله وأعلن نفسه خليفة على المسلمين في الأندلس عام 407 هـ.

    حاول خيران الصقلبي حاكم ألمريةوالمنذر بن يحيى التجيبي حاكم سرقسطة خلع علي، بأن جمعوا جيشهم ونادوا بخلافة أمير أموي يدعى عبد الرحمن المرتضى. وبينما كان علي يُعد لقتالهم، اغتاله بعض غلمان قصره في ذي الحجة 408 هـ، فخلفه أخوه القاسم.

    سار جيش المرتضى إلى قرطبة، إلا أنهم اشتبكوا قربغرناطة مع قوات صنهاجة بقيادة زاوي بن زيري حاكمغرناطة في معركة قُتل فيها عبد الرحمن وفرّ خيران والمنذر.

    وفي ربيع الآخر 412 هـ، فر القاسم من قرطبة قبل دخول ابن أخيه يحيى المعتلي بالله الذي أعلن نفسه خليفة على قرطبة ثم أعاد البربر القاسم في ذي القعدة 413 هـ. لكنه خلع مجددًا هذه المرة بعد ثورة أهل قرطبة على البربر في جمادى الآخرة 414 هـ، وولوا مكانه عبد الرحمن المستظهر بالله لكنه اغتيل بعد أيام، فخلفه محمد المستكفي بالله، الذي نجح يحيى المعتلي بالله في خلعه في رمضان 416 هـ عندما زحف على قرطبة بجيشه، قبل أن يخلعه أهل قرطبة مجددًا في ربيع الأول 417 هـ، وهكذا كان الصراع بين بني أمية وبني حمود على الخلافة.


    وكان نتيجة هذا الصراع قصر فترات الخلافة وكثرة الخلفاء وتكرارهم، ففترتا خلافة محمد المهدي لم تتعد عدة شهور، كذلك إحدى فترتي خلافة سليمان المستعين، وفترة عبد الرحمن المستظهر.


    وفي عام 420 هـ استوزر آخر خلفاء بني أمية المعتد بالله رجلًا يـُعرف بحكم بن سعيد القزاز وكان هذا الوزير نذير شؤم على المعتد بالله، إذ كان مكروهًا من أهل قرطبة لاستبداده برأيه وتعسفه بأحكامه، ومخالفته لآراء الوزراء السابقين، كما أنه كان ميالًا إلى البربر، فقد أكرمهم وأجزل لهم العطاء، فقام كبار رجال قرطبة بقتله.

    فانتهز الأمير أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن سليمان فرصة قتل الوزير، ليحرض العامة على المعتد بالله سعيًا لإسقاطه، وتولي الخلافة، وثار وراءه بنو أمية، وحاصروا قصر الخلافة في 12 ذو الحجة سنة 422 هـجريًّا وأخرج المعتد بالله من قصره هو ونساؤه وأبناؤه، وأنزل إلى ساباط المسجد الجامع المؤدي إلى المقصورة، وظل هناك أسيرًا ذليلًا، يترقب الموت في كل لحظة.

    ولكن أمية بن عبد الرحمن لم يبلغ غايته في الوصول إلى الخلافة فقرر أهل قرطبة إخراج أمية مع المعتد بالله عن قرطبة مع أن أمية كان حريصًا على الظفر بالخلافة ولم يخطر بباله أن تنتهي الأمور إلى هذا الحال، إذ إن أحدًا من أهل قرطبة قال له: إن السعادة قد ولت عنكم، فقال أمية: بايعوني اليوم، واقتلوني غدًا.

    انتهاء عصر الخلافة وبدء عصر ملوك الطوائف

    وفي ذو القعدة 422 هـ، قرر القرطبيون إلغاء الخلافة وإجلاء الأمويين عن المدينة.

    اختارت مشيخة الجماعة في قرطبة أبو الحزم بن جهور، للحكم، ولم ينفرد بالرياسة، وإنما جمع حوله صفوة الزعماء والقادة مثل ابني عمه محمد بن عباس وعبد العزيز بن حسن، يستشيرهم ويتحدث باسمهم، ويرجع إليهم في الأمور، ويصدر القرارات باسمهم في نظام أقرب ما يكون للنظام الجمهوري.

     بعد أن تولى أبو الحزم أمر قرطبة، لم ينتقل من داره إلى قصور الخلفاء، ولم يتخذ من مظاهر الملك أو يتلقب بألقاب الخلافة أو يُجرِ رسوم الملك.

    جعل أبو الحزم همه الأول الأمن لما ألمّ بقرطبة من أهوال من هجمات البربر في أثناء فترة الفتنة، ففرق السلاح في أهل الأسواق وعلى البيوت، حتى فاجأهم أمر تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، واهتم بالقضاء، وحفظ الأموال العامة التي خصص لها من يحفظها، وأشرف عليهم بنفسه.

     كما عمل على تنشيط الحالة الاقتصادية عن طريق توزيع المال على التجار ليتاجروا به، ويتحصلون منه على الربح ويكون رأس المال للدولة، فازدهرت الأسواق ونمت الموارد.

    أحداث عصر ملوك الطوائف 

    وعلى الرغم من حفاظ قرطبة على ازدهارها، فإن المدن الأخرى انفصلت عنها ولم تخضع لسلطتها وانقسمت الأندلس إلى 22 دويلة.


    وكان بعض هذه المدن لا تمكن أن تكون دولة بحال من الأحوال، وربما كانت مقتصرة على قصر وجامع وحامية حاكمها وأهلها، فسارية تغزوها وحصار أيام يصيبها بالقحط.


    وكذلك بعض حكام هذه المدن، فبعضهم قاض لا يحسن إلا الفصل بين المتنازعين وبعضهم الآخر قائد عسكري لا يحسن إلا الكر والفر، فترك كل منهم ما يحسن وسيطر على إحدى ليجمع الضرائب والمكوس.


    على الرغم من أن هذه الطوائف ورثت ثراء الخلافة، فإنها كانت دائمة التناحر فيما بينها، فكان يسلب بعضهم حصون بعض، وكذلك القرى، أحيانا المدينة كاملة.


    وكانت بعض هذه الطوائف تأوي خليفة وتدعو إليه في محاولة لإكساب حكامها الشرعية، ويقول ابن حزم: "واجتمع عندنا في صقع الأندلس أربعة خلفاء، كل منهم يخطب له بالخلافة بالموضع الذي هو فيه، وذلك فضيحة لم ير مثلها دلت على الإدبار المؤبد، أربعة خلفاء في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يدعى بأمير المؤمنين وهم: خلف الحصري بإشبيلية على أنه هشام المؤيد، ومحمد بن القاسم الحسني خليفة بالجزيرة، ومحمد بن إدريس بمالقة، وإدريس بن يحيى بسبتة."


    وكان ابن هود مثالا لملوك الطوائف، تلقب بالمتوكل ووجد القلوب منحرفة عن دولة بر العدوة مهيأة للاستبداد فملكها بأيسر محاولة مع الجهل المفرط، وضعف الرأي، وكان مع العامة كأنه صاحب شعوذة، يمشي في الأسواق ويضحك في وجوههم ويبادرهم بالسؤال، وجاء للناس منه ما لم يعتادوه من سلطان فأعجب ذلك سفهاء الناس وعامتهم العمياء، فأصبح الناس يقولون: 

    أمور يضحك السفهاء منها .. ويبكي من عواقبها الحليم


    اهتم ملوك الطوائف بمختلف الجوانب الحضارية والثقافية ولا سيما الجانب المعماري ببناء القصور مثل:

    قصور بني عباد في إشبيلية هي: المبارك والمكرم والزاهي والزاهر والوحيد والتاج. 

    وقصور بني هود في سرقسطة وهي: السرور والذهب والجعفرية. 

    وقصر المكرم للمأمون بن ذي نون في طليطلة. 

    وغيرها من القصور الأخرى.



    وأتاح الصراع السياسي الفرصة إلى تنافس الشعراء، فكانت كل طائفة تعمل على جذب الشعراء ليكونوا واجهة لها، ودعاة باسمها، خير مثال على ذلك ابن زيدون الذي كان وزيرا لدى بني جهور والمشتهر بحبه لولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي، حتى اتهم بالتآمر لإعادة السلطة إلى بني أمية بالتعاون مع الطوائف الأخرى وحبس، وعندما فر من السجن ذهب إلى بلاط المعتضد بن عباد فاستقبله وجعله وزيرا لها، وكان ابن زيدون لا يحب المعتضد حتى إذا مات قال ابن زيدون:

    لـقـد سـرنـي أن النـعـي مـوكـل .. بـطـاغـيــة قـد حـم مـنـه حـمـام

    تجانب صوب الغيث عن ذلك الصدا .. ومر عليه المزن وهو جهام


    واشتهر هذا العصر بالكثير من قصص الحب وقصائد الغزل، ومن أشهرها قصة حب ابن زيدون ولادة بنت المستكفي، ويقول ابن زيدون:

     "كنت في أيام الشباب، وغمرة التصاب، هائما بغادة، تدعى ولادة، فلما قدر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت إلي: 

    ترقب إذا جن الظلام زيارتي .. فإني رأيت الليل أكتم للسر 

    وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا .. وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر "

    وكانت لولادة جارية سوداء بديعة القوام، حسنة الصوت، فظهر من ابن زيدون ميل إليها فكتبت إليه ولادة:

    لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا .. لم تهو جاريتي ولم تتخير

    وتركت غصناً مثمراً بجماله .. وجنحت للغصن الذي لم يثمرِ

    ولقد علمت بأنني بدر السما .. لكن دهيت لشقوتي بالمشتري

    وانقطع بينهما الوصل، وقربت إليها الوزير ابن عبدوس، وسجن ابن زيدون، وعندما فر إلى إشبيلية أرسل إليها قصيدته النونية، ومنها:

    والله ما طلبت أهواؤنا بدلا .. منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا.



    وكذلك قصة حب المعتمد بن عباد ملك إشبيلية وزوجته اعتماد الرميكية، ففي يومٍ بينما كان المعتمد يتنزَّه مع شاعره وصديقه ابن عمار في مرج الفضة -أحد متنزهات إشبيلية المطلة على نهر الوادي الكبير- قال له ابن عباد: أجز هذا الشطر «صنع الريح من الماء زَرد» (يقصد أن يكمل رفيقه بيت الشعر)، إلا إنَّ بديهة ابن عمار كانت بطيئة، فسكت طويلاً ولم يكمله، وكانت بقربهما امرأة تغسل الملابس في النهر، فقالت: «أيُّ درعٍ لقتال لو جمد». 

    فتعجَّب المعتمد من موهبتها بالشعر، وفتن بجمالها، فسأل عنها، فقيل له أنها جارية لرميك بن حجاج واسمها اعتماد، فذهب إلى صاحبها "رميك بن حجاج" واشتراها منه وتزوجها، وعُرِفَت بعد ذلك بلقب اعتماد الرميكية، وكانت أقرب زوجات المعتمد إليه، بل وقد كان لقب المعتمد بالأصل هو "المُؤَيَّد بالله" لكن بعد زواجه من الرميكية غيَّر لقبه إلى المعتمد على الله تيمُّنًا باسمها "اعتماد".



    وبينما كانت المناظرات بين الأزهار في أشعار المشارقة، نجد الأندلسيين يبدعون في هذا الفن عن طريق الرسائل النثرية، فيكتب ابن برد الأصغر رسالة في تفضيل الورد على باقي الزهور إلى ابن جهور، جعل فيها الورد أحق الأزهار بملك مملكة الزهور، ولا يستبعد بل مؤكد أنه يقصد بالورد ابن جهور وكأن الرسالة دعاية سياسية عبر مباشرة له، فقد عرف ولع  ابن جهور بالورد فهو الذي يقول: 

    الورد أحسن ما رأت عيني وأذ كى ما سقى ماء السحاب الجامد

    خـضـعـت نـواويـر الريـاض لـحسنه  فـتـدلـلت تنقاد وهي شوارد 

    وكان قبله الجزيري رسالة إلى المنصور ابن أبي عامر في تفضيل البنفسج على باقي الزهور، وقد عرف المنصور بحبه للبنفسج، وأكثر منه في متنزهه "منية العامرية" وسمى به أحب جواريه إليه حتى نسب إليه "بنفسج العامرية"

    وأتى بعدهما أبو الوليد ابن حبيب الحميري وكتب رسالة إلى المعتضد بن عباد في تفضيل البهار على باقي الزهور ونقض بيعة الورد.

     وكأن الرسالة رد على سابقتها في سجال بين أقوى طائفتين في الأندلس: قرطبة وإشبيلية، اتخذ من مملكة الزهور رمزا للأندلس في سياق أدبي.


    كان ابن حزم من أهم أدباء وعلماء عصر ملوك الطوائف ويعد أكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري، ألف في الأدب، وفي الفقه وفي أصوله، وشرح منطق أرسطو وأعاد صياغة الكثير من المفاهيم الفلسفية، وربما يعد أول من قال بالمذهب الاسمي في الفلسفة الذي يلغي مقولة الكليات الأرسطية. 

    ذكر ابنه أبو رافع الفضل أن مبلغ تآليف أبي محمد هَذَا فِي الفقه والحديث والأصول والتاريخ والأدب وغير ذَلِكَ بلغ نحو أربع مئة مجلد تشتمل عَلَى قريب من ثمانين ألف ورقة.

    يرتبط بمصنفات ابن حزم حادثة خطيرة طالما تكررت بالأندلس كلما ضاق أهلها باحد ممن يخالفهم من العلماء، وهي إحراق كتبه علانية بإشبيلية، بيد أنها لم تفقد من جراء ذلك، فقد كان له جماعة من تلاميذه النجباء الذين قدروا فكره وحافظوا على كتبه التي كانوا يمتلكونها بنسخها ونشرها بين الناس، ولذا فعندما أحصاها ابن مرزوق اليحصبى -وهو من المتأخرين- وجدها ثمانين ألف ورقة، وهو نفس إحصاء أبي رافع الفضل في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، ويمكن أن نرجع أسباب هذه الحادثة إلى الآتي:-


    أولا : ثقة ابن حزم بنفسه عند منازلة كبار فقهاء المالكية، وعدم تردده في تسفيه آراءهم طالما خالفت ما يراه حقاً.

    ثانيا: تنديده بولاية خلف الحصرى للخلافة بإشبيلية، ومبايعته على أنه هشام المؤيد سنة 325 هـ/1033 م في عهد محمد بن إسماعيل القاضي والد المعتضد بن عباد، فعندما حل بإشبيلية أوقع به المعتضد أشد إيقاع لما صدر منه من إثارة الناس حول محمد بن إسماعيل رأس الأسرة العبادية.

    ثالثا: معارضة فقهاء المالكية له وسعيهم لدى السلطان للإيقاع به وإثارة العامة ضده، ومن ثم التقت أغراضهم مع ما كان يرمى إليه المعتضد، فكانت واقعة إحراق كتبه على مسمع ومرأى من الناس.

    رابعا: نزعة ابن حزم الأموية ودعوته لإعادة حكم الأمويين في الوقت الذي قطع فيه معظم ملوك الطوائف كل صلة بالأموية الأندلسية، وحاول كل واحد منهم أن يحقق استقلالا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، خاصة المعتضد الذي ما وافق على خدعة أبيه بعد وفاته بمبايعة خلف الحصرى بإشبيلية على أنه هشام المؤيد إلا ليصبغ الشرعية على محاولته الاستقلالية، وليرضى أصحاب النزعات الأموية بإمارته. فلما تحقق له ذلك أعلن وفاة الخليفة المزعوم.

    خامسا: أن ابن حزم لم يكن ينظر إلى أمراء عصره ومنهم المعتضد نظرة إكبار فهو وزير ابن وزير، وما كان له أن ينظر إليهم أكثر من نظرته إلى من دونه أو من ليسوا أكبر منه، وهم يأنفون من ذلك الأمر الذي دفع المعتضد إلى تدبير مؤامرة تجعله ذليلا لا يشمخ براسه عليه ولا على غيره هي إحراق كتبه.


    فقال ابن حزم وقد حُرِّقت مؤلفاته:


    إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي .. تضمنه القرطاس بل هو في صدري

    يـسير مـعـي حـيـث اسـتـقـلت ركـائبي .. وينـزل إن أنـزل ويـدفـن فـي قبري

    دعـونـي مـن إحـراق رق وكـاغـد .. وقـولـوا بـعـلـم كي يرى الناس من يدري

    وإلاّ فــعــدوا بـالـكـتــاتـيــب بــدءة .. فــكـم دون مــا تــبـغـون لله مـن سـتـر

    كـذاك النـصـارى يـحرقـون إذا عـلـت .. أكـفـهـم الـقـرآن فـي مـدن الـثـغـر


    وبالرغم من هذه المؤامرة التي ألمت بابن حزم فلم يتحقق للمعتضد ما كان يصبو إليه من كسر كبريائه وإذلاله، بل ظل الرجل يشمخ بمكانته وعلمه وعقله هنا وهناك دون ضعف ولا ذلة، لكنه آثر السلامة وغادر إشبيلية إلى قريته منت ليشم التي كان يمتلكها ويتردد عليها، وظل بها يمارس التصنيف والتدريس حتى وافته المنية عشية يوم الأحد 28 شعبان 456 هـ/15 يوليو 1063 م، وليس كما ذهب البعض من أن وفاته كانت سنة 457 هـ/1064 م، ولا 455 هـ/1063 م، لأن أبا رافع ولد ابن حزم هو الذي كتب التاريخ الذي ذكرناه، وهو الأعلم من أي أحد بتاريخ وفاة والده، فضلا عن أن معظم من ترجم لابن حزم ذكروا سنة وفاته كما ذكرها ابنه الفضل.


    كان ابن حزم قد رثى نفسه قبل وفاته بقليل في أبيات شعرية كأنه أحس بدنو أجله قائلا : 

    كـأنـك بـالـزوار لـى قد تـبادروا .. وقيـل لـهـم أودى عـلـى بن أحمد

    فـيـا رب مـحـزون هـنـاك وضـاحك .. وكـم أدمـع تزرى وخد محدد

    عفا الله عني يوم أرحل ظاعنًا .. عن الأهل محمولا إلى ضيق ملحد

    وأتـرك مـا قـد كـنـت مـغتـبـطًا به .. وألـقى الذي آنست منه بمرصد

    فوا راحـتى إن كـان زادى مـقدمـًا .. ويـا نـصبـي إن كـنـت لم أتزود


    وعلى الرغم من كثرة مؤلفات ابن حزم ومناصبه التي تولاها، فإنه مشتهر في الشرق والغرب بكتابه "طوق الحمامة بين الألفة والألاف" الذي يتكلم في عن الحب وفلسفته.

    وفي هذا الكتاب يحاول ابن حزم أن يربط الحب بالدين، ويتضح هذا من خلال الشواهد التي أوردها ابن حزم في الكتاب من القرآن والسنة، وكذلك من تقسيم أبواب الكتاب.


    لم يكن للأندلس ذكر أدبي أو علمي قبل الفتح وخلال فترة الولاة، وبعد تأسيس الإمارة واستقرار الأمور بدأت الأندلس توجه أنصارها نحو العلم والثقافة والأدب، فأرسل الأمير عبد الرحمن الأوسط بعثة إلى المشرق لجلب نسخ من الكتب التي ألفت فيها، وفي عهد الخليفة زاد الحركة العلمية فأنشأ الحكم المستنصر مكتبة قرطبة وجلب إليها الكتب من المشرق القسطنطينية فكان جامع قرطبة منارة العلم في أوربا تأتي إليها البعثات التعليمية من كل مكان، واستمرت الحركة العلمية والأدبية خلال عصر ملوك الطوائف، فكانت كل طائفة بها علماؤها وأدباؤها، ولمع في هذا العصر الكثير من أسماء العلماء والأدباء المشهورين إلى الآن للقاصي والداني، ولكن هذه الحركة كانت مشتتة ليست ظاهرة كعصر الخلافة إذ لا دولة مركزية في هذا العصر.


    ويصور لنا ابن الخطيب ما أصاب المجمع الأندلسي في عصر ملوك الطوائف بقوله: "ذهب أهل الأندلس من الانشقاق والانشعاب والافتراق إلى حيث لم يذهب كثير من أهل الأقطار مع امتيازها بالمحل القريب والخطة المجاورة بعباد الصليب، ليس لأحدهم في الخلافة إرث ولا في الإمارة نسب ولا في الفروسية سبب ولا في شروط الإمامة مكتسب، اقتطعوا الأقطار وانتحلوا الألقاب وكتبت عنهم الكتاب والأعلام وأنشدهم الشعراء ودونت بأسمائهم الدواوين وشهدت بوجوب حقم الشهود ووقفت بأبوابهم العلماء وتوسلت إليهم الفضلاء، وهم بين مجبوب وبربري مجلوب ومجند غير محبوب وغفل ليس في السراة بمحبوب، ما منهم من يرضى أن يسمى ثائرا ولا لحزب الحق مغايرا".


    وضج الأندلسيون من هذه الحال يبحثون عن خلاص منها، وقال أحد الشعراء:

    مما يزهدني في أرض أندلس .. أسماء معتضد فيها ومعتمد 

    أسماء مملكة في غير موضعها .. كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد 


    كانت الممالك الشمالية خاضعة في عصر الإمارة وملوكها يقبلون يد الخليفة عبد الرحمن الناصر ويؤدون إليه الجزية ويرسل ملك نافار سانشو الثاني ابنته أوراكا هدية إلى المنصور أبي عامر فاستولدها عبد الرحمن شنجول، حتى إذا ما صارت حال الأندلس إلى ما صارت إليه من ضعف وتفكك وتناحر، بدأت الممالك الشمالية تتيقظ إليها وتوجه أنظارها نحوها وتعد العدة لغزوها.


    بعد أن خضعت قشتالة وليون لألفونسو السادس استدار نحو ممالك الطوائف المجاورة، وأغار عليها من فترة إلى أخرى ليأخذ منها الجزية ويستولي على بعض الحصون والمدن.


    حتى إذا أتت الفرصة المناسبة لألفونسو فاستطاع فيها إسقاط طائفة طليطلة وضمها إلى مملكته سنة 478هـ/1085م، وأرسل إلى ملوك الطوائف يطالبهم بالجزية، فخضع ملوك الطوائف له وأدوا إليه الجزية، إلا أن المتوكل بن الأفطس ملك بطليوس رفض تأدية الجزية لألفونسو وأرسل إليه رسالة حازمة يذكره فيها كيف حال آبائه في أيام المنصور ابن أبي عامر.


    وكانت رسالة المتوكل بن الأفطس لألفونسو تقول:

    "وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير، وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتوافرة، وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنودا أعز بهم الإسلام وأظهر بهم دين نبيه محمد، أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون، بالتقوى يعرفون، وبالتوبة يتضرعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين، أما تعييرك للمسلمين فيما وهى من أحوالهم فبالذنوب المركومة. ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك لما أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى جدك أحد بناته إليه، أما نحن إن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف تشهد بحدها رقاب قومك وجلاد تبصره في ليلك ونهارك وبالله وملائكته المسومين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت وفرج يفرج بما نددت ويقطع بما أعددت."


    وفي عام 478هـ/1085م فرض ألفونسو السادس حصارا على إشبيلية بعد أن خرب أعمالها حرقًا ونهبًا، ثم بعث برسالة إلى المعتمد بن عباد يقول فيها:

    " كثُر بطول مقامي في مجلسي الذباب، واشتدَّ علي الحرَّ فأتحِفْنِي من قصرك بمروحة أُرَوِّح بها عن نفسي، وأطرد بها الذباب عني."

    يُريد وبكل كبرياء وغرور أن يُخبر المعتمد أن أكثر ما يُضايقه في هذا الحصار هو الذباب أو البعوض، أمَّا أنت وجيشك وأمتك وحصونك فهي أهون عندي منه.

    أخذ المعتمد على الله بن عباد الرسالةَ وقلبها، وكتب على ظهرها ردًّا وأرسله إلى ألفونسو السادس، ولم يكن هذا الردُّ طويلاً، إنه لا يكاد يتعدَّى السطر الواحد فقط، وما أن قرأه ألفونسو السادس حتى تَمَلَّكهُ الخوف والرعب والفزع وأخذ جيشه، ورجع من حيث أتى بعد ثلاثة أيام من الحصار.

    لم تكن رسالة المعتمد بن عباد إلاَّ قوله: 

    "قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللَّمْطِيَّة في أيدي الجيوش المرابطية، تُريح منك لا تروح عليك إن شاء الله." 

    يقصد أنه سيتيعن بجنود المرابطين في فك حصار ألفونسو والاستراحة منه ومن غزواته.


    فكّر أمراء المؤمنين في الأندلس في تلك الكارثة التي حلّت بدارهم، وكانوا يعلمون أنه إن عاجلًا أو آجلًا ستسقط بقية المدن، فإذا كانت طُلَيْطِلَة واسطة العقد قد سقطت فمن المؤكد أن تسقط قرطبة وبطليوس وغرناطة وإِشْبِيلِيّة والكثير من حواضر الإسلام في الأندلس.

    وكان العلماء يفهمون حقيقة الموقف ويعرفون الحلّ الأمثل له فأشاروا بالجهاد، وقُوبل هذا الرأي بالرفض تمامًا، ورُدّ عليه بأنهم لا طاقة لهم بجهاد قشتالة وحدهم.

    فأشار عليهم العلماءُ برأيٍ آخر يستبعدُ الجهاد وهو أن يرسلوا إلى دولة المرابطين، ويطلبوا منها أن تأتي وتقاوم النصارى وتهاجمهم في موقعة فاصلة تبعدهم بها عن أرضهم. 

    فتخوف الأمراء من ذلك الأمر لأن المرابطين دولة قوية ولو هزمت النصارى لأخذت دولة الأندلس وضمتها إلى دولة المرابطين، فتجادلوا كثيرا حتى قام المعتمد بن عباد وقال خطبة كان آخرها مقولته الشهيرة: 

    "والله لا يسمع عني أبدا أنني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم علي اللعنة في منابر الإسلام مثلما قامت على غيري، تالله إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعا لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية، والله لئن أرعى الأبل في المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا"

    فلما انتهى المعتمد من خطبته تشجع كل من المتوكل على الله بن الأفطس ملك بطليوس وعبد الله بن بلقين ملك غرناطة، ووافقا على الطلب من المرابطين العون لمحاربة قشتالة، وقام هؤلاء الأمراء الثلاثة بإرسال وفد مهيب من الوزراء والعلماء إلى دولة المرابطين في المغرب.


    دخل يوسف بن تاشفين والمرابطون أرض الأندلس، ودخل إلى إشبيلية والناس استقبلوه استقبال الفاتحين، ثم قصد إلى بطليوس حيث كانت على مقربة من الزلاقة التي كان قد نزلها ألفونسو السادس، فتوجَّه إليه أمير المسلمين بجيوشه. واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضًا، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوِّعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى ألفونسو فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة.

    وبدأ يلحق بركب يوسف بن تاشفين المجاهدون المتطوعة من قرطبة وإشبيلية وبطليوس، وهكذا حتى وصل الجيش إلى الزلاقة في شمال البلاد الإسلامية، وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.

    تحرَّك الثلاثون ألف رجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزلاقة، كان النصارى قد استعدُّوا لقدوم يوسف بن تاشفين فجمعوا عددًا ضخمًا من المقاتلين، بلغ في بعض التقديرات أكثر من ثمانين ألف مقاتل، على رأسهم ألفونسو السادس بعد أن جاءه العون من الممالك النصرانية فرنسا وإيطاليا وغيرها، وقَدِمَ ألفونسو السادس يحمل الصلبان وصور المسيح، وهو يقول: بهذا الجيش أقاتل الجنَّ والإنس، وأقاتل ملائكة السماء. فهو يعرف تمامًا أنها حرب صليبية ضد الإسلام.

    كان ألفونسو السادس من قبل هذا أرسل إلى يوسف بن تاشفين رسالة كلها غرور واستعلاء، وهذا نصها:

    باسمك اللهمَّ فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته، الرسول الفصيح، أما بعدُ: فإنه لا يخفى على ذي ذهنٍ ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمتَ الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة، وأنا أسومهم بحُكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وأُمَثِّل بالرجال، ولا عذر لك في التخلُّف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منَّا بواحد منكم، فالآن خَفَّف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفًا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا، لا تستطيعون دفاعًا ولا تملكون امتناعًا، وقد حُكِيَ لي عنك أنك أخذتَ في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عامًا بعد عام، تُقَدِّم رِجْلاً وتؤخِّر أخرى، فلا أدري أكان الجُبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربُّك، ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً لعلَّةٍ لا يسوغ لك التقحُّم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان، وتُرسل إليَّ جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعزِّ الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جُلبت إليك، وهدية عظيمة مَثَلَتْ بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت إمارة الملَّتَيْنِ والحُكم على البرَّيْنِ، والله تعالى يُوَفِّقُ للسعادة ويُسَهِّل الإرادة، لا ربَّ غيره، ولا خير إلاَّ خيره، إن شاء الله تعالى.

    فأرسل يوسف بن تاشفين برسالة إلى ألفونسو السادس يقول له فيها: بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14، غافر: 50] وخيَّره يوسف بن تاشفين بين الإسلام والجزية والحرب.

    تَسَلَّم ألفونسو السادس الرسالة وما أن قرأها حتى استشاط غضبًا و«جاش بحر غيظه، وزاد في طغيانه وكفره، وقال: أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني، وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل مِلَّته منذ ثمانين سنة؟!» ثم أرسل ليوسف بن تاشفين متوعِّدًا ومُهَدِّدًا: فإني اخترت الحرب، فما ردُّك على ذلك؟ وعلى الفور أخذ يوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأُذنك، والسلام على مَنِ اتَّبع الهدى. فلما وقف ألفونسو على هذا الجواب ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به.

    وفي محاولة ماكرة لخديعة المسلمين أرسل ألفونسو السادس يُحَدِّدُ يوم المعركة، فأرسل أن: غدًا الجمعة، ولا نُحِبُّ مقاتلتكم فيه؛ لأنه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثيرون في محلَّتنا، ونحن نفتقر إليهم، وبعده الأحد عيدنا، فلنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين.

    تَسَلَّم يوسف بن تاشفين الرسالة، وكاد ينخدع بها لأنه كان يعتقد أن الملوك لا تغدر، ولقد كانت هذه أولى جولاته مع النصارى، إلاَّ أن المعتمد بن عباد فهم الخديعة ونبَّه يوسف بن تاشفين إلى ما قد يكون فيها من الغدر.

    ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة ألفونسو وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحقت بقية الطلائع محقِّقين بتحرُّك ألفونسو، ثم جاءت الجواسيس من داخل معسكر ألفونسو يقولون: «استرقنا السمع الساعة، فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد، غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، وإن انكشف لكم هان عليكم هؤلاء الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة». وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر ابن القصيرة إلى يوسف يُعَرِّفه بإقبال ألفونسو ويستحثُّ نُصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي الأرض طيًّا حتى جاء يوسف بن تاشفين فعَرَّفه جلية الأمر. 

    بعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ/23 من أكتوبر 1086م، نقض ألفونسو السادس عهده، وبدأ بالهجوم في ذلك اليوم.

    ولقد صُدم الجيش الإسلامي، وفوجئ بالفعل وانحطَّ عليه جيش النصارى بكتائب «تملأ الآفاق»، وبدت الصدمة الأولى صدمة هائلة حقًّا!

    كان الجيش الإسلامي قد انقسم إلى ثلاث فرق رئيسة:

    الأولى: فرقة الأندلسيين

    وتضم الجيش الأندلسي وعلى رأسه المعتمد بن عباد ومعه ملوك الأندلس؛ ابن صمادح صاحب ألمرية، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، وابن مسلمة صاحب الثغر الأعلى، وابن ذي النون، وابن الأفطس.. وغيرهم، وقد أمرهم يوسف أن يكونوا مع المعتمد، كان المعتمد في القلب والمتوكل بن الأفطس في ميمنتها، وأهل شرق الأندلس في ميسرتها، وسائر أهل الأندلس الآخرين في مؤخرة هذه الفرقة، وقد اختار المعتمد أن يكون في المقدمة وأول مَنْ يصادم الجيش الصليبي.

    وقيل في روايات أخرى بأن يوسف بن تاشفين خشي ألا يثبت المعتمد بن عباد، وألا يبذل جهده في الحرب، فكان وضعه في المقدمة بطلب من يوسف بن تاشفين.

    الثانية: فرقة من جيش المرابطين

    وعلى رأسهم داود ابن عائشة، وكانت هذه الفرقة خلف الجيش الأندلسي.

    الثالثة: جيش المرابطين الرئيسي بقيادة يوسف بن تاشفين يختفي خلف أحد التلال على مسافة من الجيش، بحيث لا يُرى هذا الجيش، فيُظَنُّ أن كل جيش المسلمين هو الفرقتان الأوليان: جيش الأندلسيين وجيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة.

    وقد أراد يوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لا يستطيعا القتال، فيقوم هو ويتدخَّل بجيشه ليَعدل الكِفَّة لصالح صفِّ المسلمين.

    ولما كان يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ/23 من أكتوبر 1086م هجم ألفونسو السادس بجيشه الضخم على الجيش الأول للمسلمين (الجيش الأندلسي)، مال ألفونسو السادس على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد -وجيشه الأندلسي- صبرًا لم يُعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعَضَّته الحرب، واشتدَّ البلاء، وأبطأ عليه المرابطون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأُثْخِنَ ابن عباد جراحات وضُرِبَ على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجرحت يمنى يديه، وطُعن في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قُدِّمَ له آخر، وهو يقاسي حياض الموت يضرب يمينًا وشمالاً.

    ثم ما هو إلا أن انضم إليه القسم الأول من جيش المرابطين وقائده داود ابن عائشة، وكان بطلاً شهمًا فنَفَّس بمجيئه عن ابن عباد.

    إلا أن ألفونسو كان قد قسَّم هو الآخر جيشه إلى قسمين، فانهال بالقسم الآخر على جيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة بأعداد ضخمة، فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، وصبر المرابطون صبرًا جميلاً، وداسهم ألفونسو بكثر جنوده حتى كاد يستأصلهم، وكانت بينهم مضاربة تفلَّلت فيها السيوف، وتكسَّرت الرماح، وسارت الفرقة الثانية من عسكر ألفونسو مع البرهانس وابن رذمير نحو ملحة ابن عباد، فداسوها، واستمرَّت الهزيمة على رؤساء الأندلس إلى جهة بطليوس، ولم يثبت منهم غير ابن عباد وجيشه، فإنهم ثبتوا في ناحية يُقاتلون لم ينهزموا، وقاتلوا قتالاً شديدًا، وصبروا صبر الكرام لحرب اللئام. وبدا المعسكر الإسلامي مرة أخرى في حالة الهزيمة.

    وهنا بدأ تحرك الجيش المرابطي الرئيسي الذي يقوده ابن تاشفين، وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى، وبعد طول صبر ينزل يوسف بن تاشفين بالقسم الرئيسي من جيش المرابطين الذين كانوا معه، وهم في كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.

    قسَّم يوسف بن تاشفين الجيش الذي كان معه إلى قسمين: فالأول وقائده سير ابن أبي بكر - في قبائل المغرب وزناتة والمصامدة وغمارة وسائر قبائل البربر- يساعد جيش المسلمين الذي يقوده داود ابن عائشة والمعتمد بن عباد، والقسم الثاني بقيادته هو ومعه باقي قبائل صنهاجة والمرابطين يلتفُّ خلف جيش النصارى، ويقصد مباشرة إلى معسكرهم، فأضرمها نارًا وأحرقها، وقتل مَنْ كان بها من الأبطال والرجال والفرسان، الذين تركهم ألفونسو بها يحرسونها ويحمونها، وفرَّ الباقون منهزمين نحو ألفونسو، فأقبلت عليهم خيله من محلته فارِّين، وأمير المسلمين يوسف في أثرهم بساقته وطبوله وبنوده، وجيوش المرابطين بين يديه يحكمون في الكفرة سيوفهم، ويروونها من دمائهم، فقال ألفونسو السادس: ما هذا؟! فأُخبر الخبر بحرق محلته ونهبها، وقتل حماتها، وسبي حريمها، فردَّ وجهه إلى قتاله، وصمم أمير المسلمين نحوه، فانتشبت الحروب بينهما، فكانت بينهما حروب عظيمة لم يُسمع قط بمثلها.

    وحين علم النصارى أن المسلمين من ورائهم، وأنهم محاصَرون، ارتاعت قلوبهم، وتجلجلت أفئدتهم، ورأوا النار تشتعل في محلتهم، وأتاهم الصريخ بهلاك أموالهم، وأخبيتهم، فسُقط في أيديهم، فثَنَوْا أعنَّتهم، ورجعوا قاصدين محلتهم، فالتحمت الفئتان، واختلطت الملتان، واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك، فأمدَّ الله المسلمين بنصره، وقذف الرعب في قلوب المشركين.

    وهكذا حوصر جيش النصارى بين الجيش الأندلسي من الأمام، وجيش المرابطين من الخلف، وبالفعل بدأ الاضطراب والتراجع في صفوف النصارى، وقد التفَّ جنود النصارى حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.

    يقول الحميري: «فبادر إليه يوسف، وصدمهم بجمعه، فردَّهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، ووجد ريح الظفر، وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعًا الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرًا عظيمًا، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين فصدقوا الحملة»

    تزداد شراسة الموقعة حتى قُبيل المغربِ، ثم ومن بعيدٍ يُشير يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف فارسٍ من رجال السودان المهرة، وهم حرسه الخاص فيترجلون عن خيولهم، ليقتحموا -فيما يشبه المهمة الخاصة- قلب جيش النصارى وينفذون إلى ملكهم، وبالفعل نفذ أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة.

    ثم لجأ ألفونسو إلى تل يحتمي به كان قريبًا من معسكره ومعه نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر مَنْ عداهم من أصحابهم... ولما جاء الليل تسلل وهو لا يلوي على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحدًا بعد واحد من أثر جراحهم، فلم يدخل طُلَيْطلَة إلا في دون المائة، وبعض الروايات تقول بأن الذين نجوا أقل من الثلاثين. وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك واستشهد من المسلمين فيها حوالي ثلاثة آلاف رجل.

    وبذلك كانت الزلاقة دون مبالغة كمعركتي اليرموك والقادسية.


    قيل: ولما انصرف ابن تاشفين إلى حضرة ملكه بعث إليه المعتمد بن عباد  برسالة أنشد فيها شيئا من شعر ابن زيدون وذكر قوله:

    حالت لفقدكم أيامنا فغدت .. سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

    فلما قرئ عليه هذان البيتان قال للقارئ: أيطلب منا جواري سودا وبيضا؟ قال: لا يا مولانا، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليلا لأن ليالي الحزن سود، فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه إن دموعنا تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده.


    ولعل هذا يفسر الحالة التي صار عليه الأدب من الضعف في عصر المرابطين، فهم ليسوا عربا، ولا يجيدون العربية ولا يتذوقون الشعر.

    في سنة 481 هـ/1089م عبر المعتمد بنفسه البحر إلى المغرب لدعوة ابن تاشفين لنصرته في ردع قوات القشتاليين المُغيرة على أرضه من حصن لييط.

    استجاب يوسف بن تاشفين إلى دعوات الأندلسيين، وعبر البحر إلى الجزيرة الخضراء في ربيع الأول 481 هـ/يوليه 1088 م فوجد المعتمد قد أعدّ السلاح وآلات الحصار، بعث ابن تاشفين إلى ملوك الطوائف يستدعيهم لقتال القشتاليين، فوافوه بقواتهم، ثم سلك طريق مالقة نحو شرق الأندلس، وانضم إليه المعتمد بن عباد صاحب إشبيليةوتميم بن بلقين صاحب مالقة وعبد الله بن بلقين صاح بغرناطة والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية وعبد الرحمن بن رشيق المنتزع سلطان مرسية من يد ابن عباد في قواتهم. ضرب المسلمون الحصار حول الحصن، فاستماتت التي بلغت 12,000 راجل ومعهم 1,000 فارس في الدفاع عن الحصن رغم قصف المسلمون للحصن بآلات الحصار الضخمة.

     دام الحصار 4 أشهر عجز فيها المسلمون عن افتتاح الحصن المنيع. أثناء الحصار الطويل، شكى ابن عباد ابن رشيق ليوسف بن تاشفين، واتهمه باغتصاب مرسية منه، واتهمه بالتعاون سرًا مع ملك قشتالة، فاستفتى يوسف الفقهاء في أمر ابن رشيق، فأفتوا بإدانته، فأمر يوسف قائده سير بن أبي بكر بتوثيق ابن رشيق وتسليمه لابن عباد شريطة ألا يقتله.

    غضب قواد جيش ابن رشيق وقرابته، فانسحبوا من الحصار، وقطعوا مدد مرسية عن جيش المسلمين، وكانت أقرب مدن المسلمين إلى موقع الحصن، مما أخلّ بحال معسكر المسلمين.

     بلغ ابن تاشفين تحرك ألفونسو السادس بقواته لنجدة الحصن، فانسحب بقواته إلى موضع يقال له ترباسة يكثر فيه الماء والتمر، وانتظر جيش ألفونسو السادس، إلا أن ألفونسو اكتفى بنجدة الحصن، وإخلائه وهدمه وحرقه بعد أن وجد كثرة القتلى في صفوف المدافعين عنه حيث لم يبق منهم سوى 100 فارس و 1,000 راجل فقط، وعاد أدراجه.

    كما غادر يوسف بن تاشفين الأندلس عائدًا إلى المغرب، بعدما ترك جيشًا من 4,000 فارس بقيادة داود بن عائشة لحماية مرسية وبلنسية، وعاد أمراء الأندلس إلى بلدانهم.

    في عام 483 هـ الموافق 1090 عبر ابن تاشفين البحر متجهًا نحو الأندلس العبور الثالث برسم الجهاد، وعبوره هذه المرة دون طلب استغاثة أو نجدة كما حدث في الجوازين السابقين، فسار نحو طليطلة مُجتاحًا أراضي قشتالة، وكان يرغب في استرجاع المدينة، فضرب الحصار حول المدينة وكان فيها ألفونسو السادس ملك قشتالة، ولكن يوسف تراجع أمام أسوارها المنيعة وارتد نحو الجنوب، كُل ذلك ولم يتقدم أحد من الأندلسيين لمساعدته ضد عدوهم ألفونسو فساء فيهم نظره وتغير رأيه.


    وفي هذه الأثناء جاءت وفود الأندلسيين إلى يوسف بن تاشفين واشتكوا له من غزوات ألفونسو وصراعات ملوك الطوائف فيما بينهم وتخاذلهم عن مجاهدة ألفونسو، وكذلك اشتكى التجار المكوس المتزايدة المفروضة عليهم من ملوك الطوائف، وكاتبه علماء الشرف مثل الغزالي والطرطوشي وغيرهما، وأفتوه بخلع ملوك الأندلس والتحجير عليهم.


    وكان المعتمد يغدق الكثير من الأموال لإرضاء رغبات الرميكية، ومن أشهر قصص تبذيره لأجل إرضاءها يوم أرادت فيه أن تسير على الطين، فأمر المعتمد بأن يُسحَق لها الطيب وتُغَطَّى به كل ساحة القصر، ثم تُصَبُّ الغرابيل، ويُصَبُّ ماء الورد عليهما، وقد عُجِنَ ذلك حتى أصبح كالطين، فسارت عليه الرميكية مع جواريها. وفي يومٍ بعد هذه الحادثة اختلفت معه وغضبت، فقالت له: «والله ما رأيتُ منك خيراً قط!»، فقا لها: «ولا يوم الطين!»، فخجلت منه واعتذرت.

    كذلك يُروَى أنها رأت يوماً وهي في قرطبةالثلج يهطل شتاءً، وكان ذلك نادر الحدوث في جنوب الأندلس، فبكت بشدة، وجاء المعتمد وسألها عن سبب بكائها، فقالت: «إنك طاغية جبار غشوم، انظر إلى جمال ندف الثلوج البارقة اللينة العالقة بغصون الأشجار، وأنت أيُّها الناكر للجميل لا يخطر ببالك أن تُوفِّر لي مثل هذا المنظر الجميل كل شتاءٍ ولا تصحبُني إلى بلدٍ يتساقط فيه الثلج كل شتاء»، فقال لها المعتمد: «لا تحزني ولا تستسلمي لليأس يا سلوة النفس ومنية القلب، فإنِّي أعِدُكِ وعداً صادقاً أنك سترين هذا المنظر الذي أدخل على قلبك السرور كل شتاء»، ثم أمر بزرع أشجار اللوز على جبل قرطبة، لتظهر عند طلوع أزهارها كأنها مُغطَّاة بالثلوج.

    وقد أثارت نزوات الرميكية المتكرِّرة هذه سخط علماء ووجهاء دولة المعتمد، وأصبحوا يرون أنها تجر المعتمد إلى الاستهتار وحياة اللهو. وعندما أفتى فقهاء المسلمين يوسف بن تاشفين بجواز ضمِّه إمارات ملوك الطوائف إليه بالقوة، كان من ضمن ما أشاروا إليه في فتاواهم تبذير الرميكية وجر زوجها إلى حياة الترف واللهو.

    الأدب في عصر المرابطين والموحدين

    وبعد أن سيطر المرابطون على الأندلس تأخرت حركة الأدب، فقد كان المرابطون من البربر لا يجيدون العربية ولا يهتمون بالأدب، فاتجه بعض الشعراء نحو أغراض مثل شعر الطبيعة والخمريات والغزل عند ابن خفاجة وابن الزقاق، واتجه بعض الأخرى الفن الشعبي مثل الموشحة. 


    سقوط المدن الأندلسية وقيام مملكة غرناطة

    وفي نهاية عصر الموحدين أو ما يعرف بعصر الطوائف الثاني بدأت مدن الأندلس في السقوط واحدة تلو الأخرى، وكان نتيجة سقوط هذه المدن تحول مساجدها إلى كنائس مثل جامع قرطبة الكبير الذي حول إلى كاتدرائية تعرف بكاتدرائية المسجد.


    ولم يبق من سلطان المسلمين في الأندلس غير مملكة غرناطة تحت حكم بني الأحمر والتي فر إليها كثير من مسلمي المدن الأخرى التي سقطت.

    سقوط مملكة غرناطة وانتهاء الحكم الإسلامي للأندلس

    كان أبو عبد الصغير آخر ملوك المسلمين في الأندلس وغرناطة وبني الاحمر، في عام 1489 استدعاه فرناندو وإيزابيلا لتسليم غرناطة، ولدى رفضه أقاما حصارا على المدينة. 

    فقام أبو عبد الله الصغير بتوقيع اتفاق ينص على تسليم غرناطة، على الرغم من رفض المسلمين لهذه الاتفاقية. 

    وبسبب رفض أهل غرناطة لهذ الاتفاقية، اضطر المسلمين للخروج في جيش عظيم للدفاع عن المدينة ولأن أبا عبد لله الصغير لم يستطع الافصاح عن نيته في تسليم المدينة، قام بدب اليأس في نفوس الشعب من جهات خفية إلى أن توقفت حملات القتال وتم توقيع اتفاقية عام 1491م التي تنص على تسليم المدينة, وتسريح الجيش ومصادرة السلاح.

    حسب الأسطورة والرواية الشعبية فالمكان الذي ألقى منه نظرته الأخيرة على غرناطة ما زال معروفاً باسم (زفرة العربي الأخيرة) (بالإسبانية: el último suspiro del Moro) وبكى فقالت له أمه "عائشة الحرة":

    «ابكِ كالنساء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال»


    وبسقوط غرناطة لم يصبح للأندلسيين مدينة تأويهم ولا سلطان يحميهم، فقد قام الإسبان -من قبل- بشن حروب بالسيطرة على  إيبيريا، ففي سنة 1085م سقطت طليطلة في أيديهم، وقرطبة في سنة 1236م، وإشبيلية في سنة 1248م، وانتهى حكم المسلمين بسقوط دولة بني الأحمر في غرناطة سنة 1492م.

    ما بعد سقوط الأندلس

    كان من معاهدة تسليم غرناطة:

    “إن سمو الأمراء والأميرات وورثتهم، من اليوم وعلى مدى ما يأتي من أيام، يجيزون لأهل غرناطة أن يعيشوا على ديانتهم الخاصة، ولن يستحلوا حرمانهم من مساجدهم، وصوامعهم، ولا من مؤذنيهم، ولن يتدخلوا في مؤسساتهم ولا الهبات ذات الصلة بهذه التحملات الدينية، ولن يعملوا على إرباك عاداتهم وتقاليدهم المتبعة… ويجيزون لهم إقامة شريعتهم على ما كانت ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغضبوا أحداً… ولا يدخل النصراني مسجداً من مساجدهم. ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنا في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك عليه يعاقب …”.

    وتعهد الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإيزابيلا في المعاهدة وبنفس تاريخ توقيعها، بـ "أن ملكي قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي، القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويوقعانه باسميهما ويمهرانه بخاتميهما.

    بدا في البداية كما لو أن الملك والملكة سيلتزمان بالمعاهدة لكن لم يطل الوقت حتى بدأت نيتهما في الظهور كما أن الكنيسة الكاثوليكية حاربت بقوة سياسة الاعتدال الأولى وبدآ في نقض الشروط التي تم الإتفاق عليها إلا أنه ورغم التأكيدات البابوية والملكية القشتالية وسلطاتها المدنية والكنيسة للوفاء بشروط "معاهدة تسليم غرناطة".

    فبعد ان استتبت الأمور للملك القشتالي، وبعد دخول الملكين الكاثوليك غرناطة، وزوال ما كانوا يخشونه من انتقام المسلمين، أو انتفاضتهم عليها، بدأ يعد العدة لحرب المسلمين. كان أول الغدر تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة وكذلك مسجد الحمراء، ثم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كاتدرائية.

    نظمت الكنيسة في السنين الأولى فرقًا تبشيرية من رهبان وراهبات للقيام بنشر النصرانية. وكان ظنهم أول الأمر أن المسلمين سيعتنقون النصرانية بسهولة، خاصة عندما هاجر زعماؤهم وارتد الكثير من كبارهم. ولما مرت السنون ولم تأت هذه الفرق بنتيجة تذكر أخذت الكنيسة والدولة تفكر في تغيير سياستها من اللين إلى العنف، ملغية كل بنود معاهدة التسليم الواحدة تلو الأخرى.



    نشط ديوان محاكم التفتيش الذي يدعمه العرش والكنيسة في ارتكاب الفظائع ضد الأندلسيين، وصدرت عشرات القرارات التي تحول بين هؤلاء المسلمين ودينهم ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم، فقد أحرق الكردينال "خمينيث" عشرات الآلاف من كتب الدين والشريعة الإسلامية، وصدر أمر ملكي يوم (22 ربيع أول 917 هـ/20 يونيو 1511) يلزم جميع السكان الذي تنصروا حديثًا أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم، ثم تتابعت المراسيم والأوامر الملكية التي منعت التخاطب باللغة العربية وانتهت بفرض التنصير الإجباري على المسلمين، فحمل التعلق بالأرض وخوف الفقر كثيرًا من المسلمين على قبول التنصر ملاذًا للنجاة، ورأى آخرون أن الموت خير ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهدًا للكفر، وفر آخرون بدينهم



    أعلن الإسبان رسميًّا انقراض الإسلام في الأندلس، ولم يعودوا يذكرون اسم المسلمين بها إلا بـ"المسيحيين الجدد" أو المورسكيين.


    وعلى الرغم من كل وسائل العنف والإرهاب التي استعملتها السلطات ومحاكم التفتيش في تنصير الموريسكيين، إلا أنهم استمروا في ممارسة شعائر دينهم بصورة سرية، فكانوا يؤدون فروض الصلاة سرًا في بيوتهم، وكانوا يغلقون بيوتهم يوم الأحد موهمين السلطات بأنهم ذهبوا إلى الكنيسة، وعندما يتم تعميد أطفالهم في الكنائس يبادرون إلى غسلهم بعد رجوعهم إلى بيوتهم مباشرة، وكانوا يعقدون حفلات الزواج على الطريقة الإسلامية سرًا بعد إجراء الاحتفال العلني في الكنيسة. ولهذا أصبحت تعاليم الإسلام وممارساته تقاليد موروثة، يتوارثها الأبناء عن الآباء جيلًا بعد جيل في حلقات مغلقة، لها صفة المجالس السرية. وقد تعرض بعض هذه الأسر إلى الاضطهاد والإبادة بسبب زلة لسان صبي يعيش حالة من الازدواجية.


    بدأت محاكم التفتيش أعمالها بهدم الحمامات العربية، ومنع الاغتسال على الطريقة العربية، وكان على المورسكيين أن يتركوا أبواب بيوتهم مفتوحة من غروب شمس الخميس حتى غروب شمس الجمعة ليستطيع الجنود معرفة إذا ما كان أحد يغتسل في هذه الفترة أم لا، فالاغتسال من سنن الجمعة عند المسلمين.



    كان المورسكي الذي يمثل أمام المحكمة يخضع لاختبار أولي، وهو أن يشرب كؤوسًا من الخمر يحددها المحاكمون له، ثم يُعرض عليه لحم الخنزير ويطلب منه أن يأكله، وبذلك يتم التأكد من أن المورسكي غير متمسك بالدين الإسلامي وأوامره.


    كما صدر قرار يجرم التحدث باللغة العربية أو الاستماع إلى الغناء العربي.


    وأخيرا ومنع ارتداء الملابس الأندلسية، وكل مخالفة لهذه الممنوعات والأوامر تعد خروجًا على الكاثوليكية ويحال صاحبها إلى محاكم التفتيش، وكانت العقوبة السجن أو الغرامة أو التعذيب في المرة الأولى، وتصل في المرة الثانية إلى الإعدام.





    كانت صدور المسلمين تغلي كالمراجل نتيجة نقض الإسبان لعهودهم ومواثيقهم، وتفجرت ثورتهم عندما اعتدى أحد رجال الشرطة وخادم للأب خمنيس على فتاة مسلمة في حي البيازين في غرناطة، فهاجموا المعتدين، ففر الخادم وقبضوا على رجل الشرطة فقتلوه. ومن ثم سارت جموع الثوار إلى دار الأب خمنيس الواقع قرب قصر الحمراء للقضاء عليه، لعلمهم بأن هذه الحادثة هي من تخطيطه، واختار الثوار أربعين رجلًا منهم يمثلون حكومة موريسكية مستقلة عن الإسبان.

    احتمى خمنيس في بيت حاكم مدينة غرناطة الإسباني (الكونت دي تنديا) مستغلًا المحبة والاحترام بين هذا الحاكم والموريسكيين. أغلق الثوار الطرقات أمام الحملات العسكرية التي أرسلتها السلطات ورموها بالحجارة، واستنجدت السلطات بمطران غرناطة (الأب تالا فيرا) الذي يحظى باحترام الموريسكيين فهدأ من ثورة الموريسكيين واقتنعت حكومتهم بأقواله، والتي لا تعدو مجرد الوعود لأن مطران غرناطة وغيره يعملون أولًا وآخرًا لصالح المسيحية والممالك الإسبانية.

    حاولت السلطات تهدئة أهالي حي البيازين بأساليب ماكرة، منتظرة الفرصة الملائمة للقضاء عليهم، وفي الوقت نفسه هربت حكومة الموريسكيين (حكومة الأربعين) من غرناطة إلى إقليم البشرات خشية التنكيل بهم أو ملاحقتهم من قبل السلطات.

    وبعد إخماد هذه الثورة عام 904هـ / 1499قرر ملك غرناطة الإسباني تأسيس محاكم التفتيش في غرناطة، والتي تتبعت المسلمين بالتعميد، كما منعت أي موريسكي من الدخول إلى غرناطة حتى لا يختلط بأهلها فيثير فيهم روح الثورة، كما حُرم على المسلمين اللجوء إلى الكنائس لعلها تخفف عنهم عقوبة الإعدام.

    ولم يبق أمام هؤلاء الموريسكيين سوى اللجوء إلى المعاقل المنيعة في رؤوس الجبال ومن هناك يشنون الغارات على القوات الإسبانية التي كانت تلاحقهم باستمرار وتبيد مجموعات كبيرة منهم. إضافة إلى ذلك أصدر الملكان في 906هـ / 20 يوليو 1501م أمرًا يحرم على الموريسكيين ممارسة أي عمل يمت إلى عقيدتهم ولغتهم بصلة، مما دفع الكثير من الموريسكيين إلى الالتحاق بإخوانهم في رؤوس الجبال 

    كان من نتائج ثورة الموريسكيين في محلة البيازين في غرناطة، أن ثار إخوانهم في منطقة البشرات الواقعة في جنوبي غرناطة، فأرسلت الحكومة الإسبانية حملة عسكرية للقضاء على هذه الثورة، قادها (الكونت تنديا) -القائد الذي قام بالدور نفسه في ثورة البيازين- وغيره، ففي طريقها كانت تمر على القرى فتجدها مقفرة من رجالها الأشداء الذين التحقوا بثوار البشرات، فتحرق القرى بعد قتل النساء والأطفال والشيوخ.

    ولحق بهذه الحملة الملك الإسباني فرناندو وبعض قواده، الذين احتلوا بعض القرى والحصون في الطريق مثل (وادي لكوين) ومدينة (لانخرون) و (لوشار) و (قونقه) و (اندرش) ولقيت الحملة الإسبانية مقاومة عنيفة من الموريسكيين الذين دافعوا عن مدنهم ببسالة.

    ومن مدينة المرية خرجت حملة إسبانية أخرى تجاه البشرات، فأوقعت هذه الحملات الخسائر الكثيرة بالموريسكيين وأخذت الكثير منهم كرهائن. وفي عام 907هـ / 1502 م كانت الثورات قد أُخمدت عمومًا في جميع أراضي البشرات وما جاورها، واضطهد الإسبان الموريسكيين اضطهادًا لا نظير له، فنسفوا مساجدهم، وقتلوا نساءهم وأطفالهم وتعرضوا لحرب إبادة مكشوفة، لأن الموريسكيين في نظر الإسبان مجرد عبيد ورقيق. وأخيرًا وضع الموريسكيون المغلوبون على أمرهم أمام أحد الخيارين: إما التنصير القسري، أو التهجير خارج إسبانيا، وانسحب هذا الأمر إلى مدجني قشتالة وليون.

    وبعد فشل ثورتهم بعث الموريسكيون باستغاثتهم إلى الدولة السعدية في عدوة المغرب، لأن المغرب أقرب البلاد الإسلامية لهم، إلا أن الحالة السياسية المفككة للمغرب في هذه الفترة منعته عن إرسال النجدات إلى  الأندلس، كما كان سابقًا.

    فأرسل الموريسكيون استغاثتهم الأولى إلى السلطان بايزيد الثاني سلطان الخلافة العثمانية (886هـ - 1481م / 918هـ - 1512م)، واتفق هذا السلطان مع السلطان المملوكي في مصر قايتباي (872هـ - 1468م - 901هـ / 1496م) على إرسال أسطول بحري لنجدتهم عن طريق صقلية. إلا أن ظروف السلطانين السيئة حالت دون إرسال مثل هذا الأسطول، فاكتفى السلطان بايزيد بإرسال كتاب إلى الملكين الكاثوليكيين، بعد ثورة البيازين عام 1499م، لم يكن له أي أثر يذكر. ومع ذلك استنجد به الموريسكيون مرة أخرى، فكانت استغاثتهم على شكل قصيدة مؤثرة مطلعها:

    سلام كريم دائم متجدد *** أخص به مولاي خير خليفة

    ويبدو أن تاريخ هذه الاستغاثة كان بعد عام 1501م، ولم يحرك السلطان العثماني ساكنًا، وذهبت الاستغاثة الموريسكية في مهب الريح.

    فأرسل الموريسكيون استغاثتهم إلى الملك الأشرف قانصوه الغوري (907هـ / 1501م – 922هـ / 1516م) سلطان دولة المماليك البرجية في مصر، وأوضحوا له ما وصلت إليه حالهم من إكراه على الارتداد، وانتهاك للحرمات. ودعوه ليتوسط لدى الملكين لكي يحترما معاهدات الاستسلام، ويوقفا الأعمال البربرية ضدهم. فأرسل سلطان مصر وفدًا لملكي إسبانيا، بأنه سيجبر المسيحيين المقيمين في بلاده على الدخول في الإسلام بالقوة، إذا لم يحترم الملكان الاتفاقيات المعقودة بينهم وبين مسلمي الأندلس.

    أرسل الملكان الإسبانيان وفدًا إلى مصر في عام 1501م يتزعمه رئيس كاتدرائية غرناطة، والذي استطاع أن يغرر بسلطان مصر ويوحي له بأن الموريسكيين في حالة جيدة، ومعاملتهم حسنة، وأن لهم الحقوق والواجبات التي يتمتع بها الإسبان. ولم يتابع سلطان مصر الأمر لأنه كان مشغولًا بحركات السلطان سليم الأول، وذهب قانصوه الغوري ضحية لهجوم سليم الأول على بلاد الشام في معركة مرج دابق عام 1516 م.

    وعندما خابت الآمال التي كان يعلقها مسلمو الأندلس على إخوانهم في الدين في بلاد المغرب والمشرق، لم يبق أمامهم سوى خيارات ثلاث هي: الموت أو التنصير القسري، أو الهجرة القسرية خارج البلاد.

    فضل الكثير منهم البقاء في بلادهم، والقبول بالأمر الواقع، والتنصير القسري -ولو بالظاهر- حيث صعب عليهم مفارقة الأوطان العزيزة. 

    وهناك فريق آخر أبت عليه عزة الإسلام أن يعيش ذليلًا، أو متنصرًا، فترك البلاد وهاجر إلى مصر وبلاد الشام وبلاد عدوة المغرب،وقسم منهم ذهب مع الرحلات الاستكشافية إلى أمريكا الوسطى والجنوبية.

    ولم يكتف الملكان الإسبانيان بتنصير وتهجير الموريسكيين، بل لاحقوهم إلى دار هجرتهم وبخاصة بلاد المغرب العربي التي تعرضت مدنه -التي سكنها الموريسكيون- لغارات الإسبان البحرية


    في هذه الأثناء كان الأندلسيون لا يفكرون إلا في الثورة للحفاظ على معتقداتهم وثقافتهم فاعتصم عدد كبير من مسلمي غرناطة وبلنسية برؤوس الجبال وشنوا حرب عصابات على قوافل الدولة وقواتها لضرب مصالحها.

    وكان القانون قد حدد نهاية 1567 كموعد أخير لتخلي المسلمين عن معتقداتهم وثقافتهم وتسليم أبنائهم إلى الكنيسة لتعلم الكاثوليكية والقشتالية.

    فعمل زعماء غرطانة على إشعال ثورة كبرى، فاجتمعوا قبيل نهاية عام 1567 واتفقوا على شرطين لنجاح الثورة هما: مشاركة مسلمي إسبانيا كلها في الثورة إن أمكن أو كل مسلمي غرناطة على الأقل، والحصول على الدعم المادي بالسلاح والرجال والمال من الدولة السعدية في المغرب والوالي العثماني في الجزائر.

    تواصل المورسكيون مع الدولتين واتفقوا معهما على دعم الثورة، ثم أسسوا جمعية خيرية لجمع المال لبناء مستشفى لعلاج فقراء غرناطة واستخدموها غطاء لدعوة المورسكيين للثورة.

    واستطاعوا من خلال هذه الجمعية جمع 45 ألف رجل من غرناطة أعمارهم بين 20 و45 سنة، بينما رفض مسلمو بلنسية ومرسية المشاركة في الثورة لعدم ثقتهم بنجاحها.

    خطط لثورة أن تقوم يوم الخميس المقدس 14/4/1568 لكن أحدهم أخبر السلطة في 4/4/1568 فاعتقلت مجموعة من وجهاء المسلمين وألغوا تراخيص حمل السلاح فتأجلت الثورة.

    وفي 27/9/1568 عقد هرناندو بن جهور أحد قادة الثورة اجتماع حضوره 26 رجل من ممثلي البلديات المشاركة في الثورة ووضح لهم ضرورة مبايعة سلطان أندلسي ليلتف الناس حوله ورشح لهم ابن أخيه فرناندو القرطبي البالغ من العمر 22 عاما، فبايعه الحاضرون بصفته وريث خلفاء بني أمية في قرطبة -وكان ينحدر من نسلهم- واستعاد اسمه الأصلي "محمد بن أمية" وقام وصلى بالحضور وأقسم أمامهم على الجهاد حتى الشهادة أو النصر، واتفقوا على إعلان الثورة في 1/1/1569.

    وقسم الثوار أنفسهم إلى ثلاثة فرق في حي البيازين، فرقة تقتحم قصر الحمراء وتحتله، وفرقة تتوجه نحو محكمة التفتيش لتسجن أعضاءها وتحرر من يحقق معهم، وفرقة تقتحم السجن وتحرر من به من المعتقلين.

    اصطمد الثوار بالقشتاليين قبل الموعد المحدد، ففي يوم 23/12/1568 اشتبكوا مع غرفة قشتالية كانت تعتدي على أهل بلدة قديار.

    واستمرت المناوشات بين الثوار والحامية الإسبانية، وفي مارس 1569 انتشرت شائعات تقول إن محمد بن أمية سيهاجم غرناطة ويسيطر عليها، فقتل حراس السجون كل المسجونين، مما جعل العامة من أهل غرناطة يثورون أيضا وانضم إليه جنود من البربر والأتراك قادمين من المغرب والجزائر.

    وفي ليل 20 أكتوبر1569 اغتيل محمد بن أمية بعد مؤامرة دبرت له جعلت الثوار يشكون أنه قد خانهم مقابل تحرير أبيه وأخيه من أيدي الإسبان.

     عقب اغتيال ابن أمية بويع ابن عبو قائدًا للثورة واتخذ لقب مولاي عبد الله، ورغم أن الثوار حققوا بعض الانتصارات تحت قيادة ابن عبو، إلا أنهم سرعان ما خسروا ما كسبوه وقُتل ابن عبو بيد بعض أتباعه في مؤامرة دبرها الإسبان في أحد كهوف البشرات في 13 مارس 1571.

    بعد نجاح الإسبان في قمع الثورة سنة 1571، نُقل جميع سكان البشرات تقريبًا إلى قشتالة وغرب الأندلس، وأخليت حوالي 270 قرية من سكانها المسلمين ووُطن في بعضها مسيحيون من الشمال الإسباني بينما تُرك البعض الآخر خاويًا على عروشه. وقد ترتب على هذا التغير الديموغرافي تدير صناعة الحرير لقرون تالية.

    كما أمر فيليب الثاني بتشتيت شمل 80 ألفًا من مورسكيي غرناطة في أنحاء متفرقة من مملكته لتفتيت وحدة المجتمع الموريسكي وتسهيل دمجهم في المجتمع المسيحي، إلا أن العكس هو ما حدث، إذ كان لمورسكيي غرناطة المهجرين تأثير كبير في المورسكيين الذين سبقوهم بالتوطن الإجباري في المناطق التي نُقلوا إليها، والذين كانوا على وشك الاندماج فعليًا في تلك المجتمعات، ولكن بلا فائدة على أرض الواقع.


    بتحريض من دوق مدينة ليرما، ونائب ملك بلنسية رئيس الأساقفة خوان دى ريبيرا، قام فيليب الثالث ملك إسبانيا بطرد الموريسكيين من إسبانيا في عملية استغرقت الفترة بين 1609 (بلنسية)و 1614 م(قشتالة)، فقد أُمروا أن يغادروا "تحت ألم الموت والحرمان، بدون محاكمات أو أحكام. وألا يأخذوا معهم نقوداً، أو سبائك ذهبية، أو مجوهرات أو كمبيالات...فقط يغادروا بما يستطيعون حمله" وتختلف التقديرات حول أرقام المهجرين، بالرغم من أن الأرقام الحديثة تُقدرهم بحوالي 300.000 (أي حوالي 4% من السكان الإسبان). وبينما كانت ترحيل الموريسكيين المقيمين ببلنسية وكاتالونيا عملية سهلة بحكم أن الطرد تم عبر البحر، فإن طرد موريسكيي إكستريمادورا وكاستيا تطلب جهودا جبارة تتجلى في اعتقال من يعيشون متفرقين في الضيعات الزراعية ونقلهم إلى المواني. 

    وذكر المؤرخ الإسباني مكيل دي أبلاسا فيرير في كتابه "الموريسكيون قبل وبعد الطرد" أن التهجير تم باتجاه الشام وتركيا وليبيا وأساسا نحو دول شمال أفريقيا وبالأخص نحو المغرب بسبب القرب الجغرافي.

    و كانت الأغلبية مطرودة من تاج أراغون (المسماة الآن أراغون ، كتالونيا وبلنسية)، خاصة من بلنسية حيث ظلت مجتمعات الموريسكيين كبيرة وظاهرة للعيان ومتماسكة. وكان العداء المسيحي حاداً، وخاصة لأسباب اقتصادية. وحمل بعض المؤرخين مسئولية الانهيارات الاقتصادية اللاحقة للساحل الشرقي للمتوسط الإسباني لعدم القدرة على إحلال عمال مسيحيين جدد محل العمال الموريسكيين، حيث تم التخلي عن العديد من القرى تماما كنتيجة لذلك، فالعمال الجدد كانوا أقل عدداً وكانوا غير متقنين للتقنيات الزراعية المحلية.في مملكة قشتالة (بما في ذلك الأندلس ومرسية ومملكة غرناطة السابقة)، وعلى النقيض، كان حجم طرد الموريسكيين أقل حدة بكثير، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن وجودهم كان غير ملحوظ لأن عددهم بالنسبة لعدد السكان كان قليلاً، بالإضافة إلى أن الحكومة أمرت بتشتيت مجتمعات مجتمعاتهم داخلياً بعد حرب البشرات ، جاعلةً منهم مجموعات أقل ظهوراً اندمجت مع المجتمع الأوسع إلى أن اختفت.

    وأغلب الظن أن الموريسكيين البالغين هم مسلمين متخفيين، ولكن طرد أطفالهم وضع إسبانيا الكاثوليكية في مأزق؛ فبتعميد جميع الأطفال لا يحق للحكومة قانونياً أو أخلاقياً نقلهم إلى الأراضي الإسلامية. 

    واقترحت بعض السلطات فصل الأطفال بالقوة عن آباءهم ولكن أعدادهم جعلت من ذلك الاقتراح حلاً غير عملي، وبالتالي كانت الوجهة الرسمية للمطرودين هي فرنسا (خصوصا مارسيليا)؛ فبعد مقتل هنري الرابع ملك فرنسا عام 1610 ذهب حوالي 150.000 موريسكي إلى هناك، نزح معظمهم إلى شمال أفريقيا وتبقى منهم حوالي 40.000 فقط يقيمون في فرنسا بشكل دائم.


    وهكذا طرد الأندلسيون بعد ثمانية قرون من الحضارة والتعايش مع مختلف الأجناس في أثناء قوتهم، وبعد قرنين من الاضطهاد 

    موقف الأندلسيين في العصر الحديث

    بعد أربعة قرون على حادث طرد المسلمين الموريسكيين من الأندلس في القرن السابع عشر، تحرك البرلمان الإسباني لكي يعيد فتح أبرز صفحات التاريخ الأسود لإسبانيا التي لا زالت أشباحها تطارد الذاكرة الإسبانية اليوم. فقد وضع الفريق الاشتراكي أمام لجنة الخارجية في البرلمان مشروع قانون ينص على رد الاعتبار لأحفاد الموريسكيين الذين طردوا بشكل جماعي من إسبانيا.

    يقدر عددهم في المغرب بحوالي 4 ملايين نسمة من أصل 35 مليونا (إحصاء 2007)، يعيش حاليا معظمهم في شمال المغرب، بل إن بعضهم ما زال يسكن في قرى بمحاذاة السواحل المطلة على مضيق جبل طارق، حيث يمكن مشاهدة السواحل الإسبانية من الضفة المغربية.

    ينص مشروع القانون على رد الاعتبار لأحفاد الموريسكيين، الموجودين اليوم في المغرب بشكل خاص وفي بعض البلدان المغربية بشكل عام، ويوصي بتقوية العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية معهم، لكنه لا يذهب إلى حد مطالبة الدولة بالاعتذار الرسمي، أو تعويض أحفاد المطرودين اليوم مقابل ممتلكات أجدادهم التي سلبت منهم، أو تمكينهم من الحصول على الجنسية الإسبانية. ويرى بعض المسؤولين عن المنظمات الإسلامية في إسبانيا أن المشروع، وإن كان يساويهم باليهود السفارديم الذين طردوا من الأندلس قبل خمسة قرون بعد صدور قانون بهذا الشأن عام 1992، إلا أنه لا يشير إلى ضرورة اعتذار إسبانيا للمسلمين مثلما اعتذرت لليهود الإسبان قبل عام 1992.و في عام 2012 أعلنت وزارة العدل الإسبانية أن مدريد قررت منح حق الحصول على الجنسية الإسبانية لأحفاد اليهود الذين طردوا من البلاد عام 1492، ويصعب تحديد عدد المستفيدين من القرار،لكن دراسات تشير إلى وجود 250 ألف شخص في العالم يتحدثون لهجة اليهود الإسبان.

    جاءت هذه الخطوة في سياق التحركات التي أصبح يقوم بها أحفاد الموريسكيين في المغرب وخارجه، للتذكير بالتزامات إسبانيا الحديثة تجاههم، كما أنه أيضا يأتي في سياق الانفتاح الذي بات يطبع القراءات التاريخية المعاصرة لتجربة إسبانيا التاريخية بعيدا عن الانغلاق القديم. فقد عقد الموريسكيون المغاربة في عام 2002 أول مؤتمر من نوعه حول هذا الموضوع بمدينة شفشاون، طالبوا فيه إسبانيا بالاعتذار لهم، كما دعوا إلى الاهتمام بأوضاع تلك الفئة التي رأوا أنها تشكل جزءا من تاريخ إسبانيا.

    كان المشروع خطوة أولى في الطريق الصحيح، كما يرى بعض المهتمين بالملف، مثل الدكتور عبد الواحد أكمير مديرمركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات، الذي قال إن المشروع يعتبر نوعا من الاعتراف بأن الإسلام يشكل جزءا من الهوية الإسبانية. فالعديد من المؤرخين الإسبان اليوم أصبحوا ينكبون على تلك المرحلة بالنقد والتحليل في اتجاه محو الصورة السلبية التي علقت بالذهنية الجماعية للإسبان عن الموريسكيين، ويعتبرون أن المسلمين الإسبان الذين طردوا قبل 400 عاما لم يكونوا غرباء عن البلاد، بل كانوا إسبانا اعتنقوا الإسلام، بل إن شريحة واسعة منهم ـ كما بينت الدراسات التاريخية ـ لم تكن تعرف حتى اللغة العربية، وذلك ردا على تلك الأطروحات التي تقول إن الموريسكيين هم عرب ومسلمون جاؤوا مستعمرين لإسبانيا من خارجها وتم إرجاعهم من حيث أتوا بطردهم.

    والقومية الأندلسية (بالإسبانية: Nacionalismo andaluz) هي حركة سياسية واجتماعية تدعو إلى الاعتراف بأندلسيا كأمة، تغطي مجموعة واسعة من الآراء : من مؤيدي الكونفيدرالية داخل إسبانيا إلى المطالبين علنًا بالاستقلال والانفصال عن إسبانيا.

    يُعد بلاس إنفانتي اليوم أبا قومية الأندلسيين ومفكر انبعاثهم المعاصر، فهو من وضح معالم القومية الأندلسية، وهو ابن مقاطعة مالقة ومولود بها سنة 1885 م، بعد أن ظهرت أفكاره لأول مرة في خطاب ألقاه سنة 1914م في إشبيلية عن "النظرية الأندلسية " ، كان أساس كتابه التاريخي عن القومية الأندلسية. وأخذت تستعمل عبارة " الأمة الأندلسية " لأول مرة، ثم تبلور الفكر الأندلسي في اجتماع رندة عام 1918 م في النقطتين التاليتين :

    الاعتراف بأندلسيا كبلد وقومية ومنطقة ذات حكم ذاتي ديمقراطي على أساس دستور انتقيرة.

    اختيار العلم الأخضر والأبيض علما للأمة الأندلسية، وهو علم مستوحى من أبيات شعرية للمسلمين الأندلسين، إضافة إلى أنه استوحى الألوان من الراية التي رفعت على مئذنة جامع إشبيلية بعد انتصار الموحدون في معركة الأرك للاحتفال بالنصر.

    وفقا لمسح أجري في نوفمبر 2005 أخذ عينة من 1،010 شخص، منهم 52.7٪ "موافق جدا" أو "إلى حد ما موافق" في إصلاح النظام الأساسي (دستور محلي) لمنطقة الحكم الذاتي أندلسي واعتبار أندلسيا ك"واقع وطني" مقارنة ب 24.4٪ الذي قال " لا أتفق". وحول ما إذا كان القانون الجديد ينبغي أن يعتبر أندلسيا كأمة.





    حازم غيث
    @مرسلة بواسطة
    كاتب لدى موقع أندلسية .