-->

Translate

قراءة في نونية ابن زيدون

قراءة في نونية ابن زيدون


     الشاعر

    هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي، ولد برصافة قرطبة في زمن الخليفة هشام بن الحكم والأمر يومئذ  للحاجب المنصور أبي عامر، كان أبوه من أعلام فقهاء قرطبة، ويذكر القاضي عياض أن والد الشاعر "كان متفننًا في ضروب العلم جم الرواية والمعرفة فصيحًا جميل الأخلاق" فقده وهو في الحادية عشرة من عمره فكفله جده لأمه وكان عالمًا جليلًا تقلد مناصب في الشرطة والقضاء ولهذا تهيأت لشاعرنا عوامل النبوغ من العلم والنسب والثروة والجاه، هكذا نشأ شاعرنا وثقف ثقافة حسنة واستحكمت ملكته الشعرية في العشرين من عمره تقريبًا، وأثناء الفتنة في قرطبة بعد انقطاع الدولة الأموية كان منحازًا إلى أبي الحزم بن جهور حتى كان له أمر قرطبة فاستوزر أبو الحزم شاعرنا وجعله على أمور أهل الذمة وسفيرًا بينه وبين الملوك فلقب بذي الوزارتين فأحسن التصرف في ذلك وغلب على قلوب الملوك الذين كان يبعث سفيرًا إليهم، وكان يهوى ولادة بنت المستكفي وكان ينافسه في حبها الوزير ابن عبدوس فكتب ابن زيدون على لسانها رسالته الهزلية يسب فيها ابن عبدوس ويتهكم عليه فاشتهر ذكرها في الآفاق وافتضح بها ابن عبدوس فظل يسعى به عند أبي الحزم ابن جهور حتى اتهمه بالخيانة وأنه يحوك الدسائس لنزع سلطة بني جهور وإعادتها لبني أمية فحبس شاعرنا واستعطف أبا الحزم بشعره من محبسه ولكنه لم يلتفت إليه فهرب الشاعر من سجنه إلى إشبيلية في قصر المعتضد ابن عباد فأحسن إليه واستوزره  ومن بعده ابنه المعتمد كذلك، وكان قبل ذلك وقعت الجفوة بين ابن زيدون وولادة بسبب إعجابه بجارية لها حسنة الصوت، فكتب إلى ولادة شعرًا كثيرًا يرجو منها أن تدوم على العهد ويصفها ويصف حاله ويتذكر أيام لهوه وذكريات ملاهيه، ومنها قصيدتنا التي سنحللها هنا. 


    عن القصيدة

    فر الشاعر من سجنه إلى إشبيلية وقلبه معلق بحبيبته وقرطبة فامتزج فيه شعور الحنين بالشجن والتقى الألم بالأمل وتزاحمت في نفسه الذكريات فصدرت هذه الأنات في قصيدته الخالدة التي  أرسلها إلى ولادة فنالت شهرة واسعة وثارت حولها الأساطير حتى قيل "ما حفظها أحد إلا مات غريبًا " وقد شغف بمعارضتها وتخميسها وتسديسها كثيرون ولكنها  ظلت سامقة في مكانها في مكانها الرفيع

    جاء في ديوان ابن زيدون ورسائله تحقيق علي عبد العظيم " وردت القصيدة في عدة مصادر قديمة وفيها اختلاف في ترتيب بعض أبياتها وفي بعض العبارات كما أن هناك خلافًا في مبدئها فيقول ابن نباتة (... وله القصيدة النونية التي أولها [بنتم وبنا ... البيت] وقد تداولتها الألسن وزيد فيها ما كانت في غنى عنه) فكأن الأحد عشر بيتًا الأولى ليست من القصيدة، ولكن الصفدي يقول (... ومن ذلك قصيدته النونية التي أولها [أضحى التنائي بديلًا ...البيت] ولكل من الرأيين ما يزكيه ونحن نرجح أن الشاعر صاغ قصيدته ثم أعاد النظر فيها كعادته فزاد فيها وحرص على جعل أولها مصرعًا"


    المستوى الإيقاعي للقصيدة

    جاءت القصيدة على البحر البسيط ذلك البحر الموفورة موسيقاه  الحزينة نغمته المضطربة سرعته وذلك الاضطراب لعله  ناتج عن الاختلاف الكمي بين تفعيلتي البحر ولعل هذا الذي جعلنا نرى فيه كثيرًا من المراثي منذ العصر الجاهلي لأن اضطراب سرعته يوافق الاضطراب النفسي لدى الشاعر، فمثلًا نرى من أشهر القصائد على هذا البحر القصيدة التي يرثي فيها المهلهل أخاه كليبًا والتي يقول في مطلعها:

    كليب لا خير في الدنيا وما فيها ***إذ أنت خليتها فيمن يخليها

    وكذلك رثاء الخنساء لأخيها صخر والتي تقول في مطلعها:

    قذًى بعينك أم بالعين عوَّارُ*** أم ذرَّفت إذ خلت من أهلها الدارُ   

    حتى نجد هذا الإيقاع في رثاء المدن والممالك فنجده في رثاء بغداد إذ يقول العنزي:

    من ذا أصابك يا بغداد بالعينِ***ألم تكوني زمانًا قرَّة العينِ 

    وكذلك ما قاله فيها بهاء الدين ابن أبي يسر التنوخي

    لسائل الدمع عن بغداد أخبارُ***فما وقوفك والأحباب قد ساروا

    وأكثر ما نراه من هذا الغرض في هذا الإيقاع كان في رثاء مدن  الأندلس وممالكها مثل رثاء ابن الأبار لمدينة بلنسية ويستنجد فيها بأمير تونس إذ يقول:

    أدرك بخيلك خيل الله أندلسا***إن السبيل إلى منجاتها درسا

    ومرثية ابن عبدون لبني الأفطس أصحاب بطليوس

    الدهر يفجع بعد العين بالأثرِ***فما البكاء على الأشباح والصورِ

    وقول ابن اللبانة في رثاء ملك بني عباد

    تبكي السماء بدمع رائح غادِ***على البهاليل من أبناء عبَّادِ

    وبكاء المعتمد بن عباد نفسه

    فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا***فساءك العيد في أغمات مأسورا

    وأشهر القصائد في هذا النوع من المراثي قصيدة أبي البقاء الرندي

    لكل شيء إذا ما تم نقصانُ***فلا يغر بطيب العيش إنسانُ

     وأيضًا قصيدة ابن زيدون في سجنه كانت على هذا الإيقاع

    ما جال بعدك لحظي في سنا القمرِ** إلا ذكرتك ذكر العين بالأثرِ

    وفي كل ما سبق ذكره نرى المعاني الخزنة التي تدل على اضطراب خواطر شعرائها جاءت على إيقاع قصيدة شاعرنا لما له من دلالة، ولا نقول إن هذا مطرد في الشعر العربي كله، ولعل هذا يتوقف على شاعرية كل شاعر ومدى إدراكه لدلالة الإيقاع أو رؤيته له.

    وعودًا لإيقاع قصيدة شاعرنا نجده قد جاء بقافية موفقة أيضًا، فهي مكونة من روي النون المتبوع بألف الإطلاق والمردوف بحرف الياء، فالياء والألف من حروف المد واللين وهما من الصوائت وحسب تقسيم علماء اللغة للأصوات فإن الصوائت هي أقوى الأصوات في الإسماع وأطول في الزمن الذي تستغرقه في النطق، وتليها الأصوات المسماة بأشباه أصوات اللين وهي( الميم والنون واللام والراء) والنون هو روي قصيدة شاعرنا بالإضافة إلى كونه حرفًا أغن مما جعل أصوات حروف القافية أشبه بالأنين والرنين اللذين يختمان كل بيت.

    وعليه فإن إيقاع القصيدة جاء موافقًا لحالة الشاعر النفسية ممثلًا في  الوزن الذي مثل اضطراب نفس الشاعر وخواطره، والقافية التي تمثل أنينه و توجعه من الفراق.

     

    لغة الشاعر في القصيدة وأسلوبه

     جاءت لغة القصيدة سهلة مناسبة لغرض القصيدة والصور مأخوذة من بيئة الشاعر فهو الوزير ربيب القصور فكان من الطبيعي أن تأتي الصور والألفاظ  وردًا ونسرينًا وورقًا وتبرًا ومسكًا وروضةً ونعيمًا كما أثرت فيها ثقافة الشاعر ابن الفقهاء فنرى عنده ألفاظًا مثل سور وتلقين وجنة الجلد وزقوم وغسلين وكوثر موقف الحشر، والقصيدة في بنائها العام قائمة على مقارنة بين زمن الوصل وزمن الهجر نتج عنها مقابلة وطباق بين الجمل والألفاظ ، وهذا كله طبيعي ليس فيه تكلف كما كان شعراء البوادي يأخذون صورهم مما يحيط بهم كالرئم والمها والرمح والدعص كذلك فعل شاعرنا ولعل هذه القصيدة لو كانت من شاعر غير ابن زيدون كنا شعرنا فيها بتكلف، والأسلوب فيها قائم على رسم مجموعة من اللوحات المتتالية بقريحة الشاعر وعين المحب ولفظ المبدع وحيرة المشتاق وصدق المجرب فكانت النونية التي بلغت مبلغها في الأدب العربي على مر العصور ونفوس المتلقين لأنها تظهر حالة الشاعر على كل المستويات وكأننا نعيش معه ونراه حينما نظم القصيدة وأداها وهو أمامنا.

     

    تحليل القصيدة

    يبدأ شاعرنا القصيدة باللوحة الأولى التي تعبر عن حاله بُعَيد الفراق، وهذه اللوحة مكونة من أربعة أبيات وهي

    أضحى التنائي بديلًا من تدانينا***وناب عن طيب لقيانا تجافينا

    ألا وقد حان صبح البين صبحنا***حين فقام بـنـا لـلحـين ناعينا

    من مبلغ الملبـسينا بانتـزاحهم*** حزنًا مع الدهر لا يبلى ويبلينا

    أن الزمان الذي ما زال يضحكنا***أنســًا بـقربهم قـد عاد يبكينا

    يخبرنا الشاعر في هذه الأبيات أن الفراق أصبح هو الكائن بينه وبين ولادة بعد الذي كان بينهما من وصال وود، فقد جاء صبح البين فأصابه بالهلاك فقام ينعاه ناعيه وكأن روحه هي التي نأت عنه وليست ولادة، إذا وقفنا مع ألفاظ هذين البيت وجدنا الشاعر استخدم الفعل " أضحى" وأضاف "الصبح"  للبين مع أن الغالب في الشعر العربي أن يستخدم الإمساء للتعبير عن الفراق والبين وتبدل الود لأن المساء عندهم هو مستودع الهم وتداعي الذكريات فنجد امرأ القيس يقول:

    غلقن برهن من حبيب به ادعت***سليمى فأمسى حبلها قد تبترا

    وكذلك بقول:

    أأسماء أمسى ودها قد تغيرا***سنبدل إن أبدلت بالود آخرا

    وكذلك يقول الأعشى:

    بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا***واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا

    وكذلك النابغة الذبياني:

    بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما***واحتلت الشرع فالأجزاع من إضما

    فلماذا إذن قال ابن زيدون أضحى؟ لعل هذا يرجع إلى أن الوصال بينها في الليل فكان الليل له مصدر سرور فلما جاء النهار بالهجر كان يشبه الهلاك وهو الذي يقول:

     وكنت في أيام الشباب، وغمرة التصاب، هائمًا بغادة، تدعى ولادة، فلما قدر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت إليَّ:

      ترقب إذا جن الظلام زيارتي***فـإنـي رأيـت الـليـل أكتم لـلسرِ

    فبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا**وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسرِ

    لذلك نراه يمدح الليل ويذم الصبح في القصيدة نحو قوله:

    حالت لفقدكم أيامنا فغدت***سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا

    وكذلك قوله:

    سران في خاطر الظلماء يكتمنا***حتى يكاد لسان الصبح يفشينا

    فالصبح عنده هو الذي جاءه بالبين وهو الذي أفشى سرهما وهو الذي سُر فيه أعداؤه بافتراقهما، ثم يتساءل عمن يبلغ الذين ألبسوه ثوب الحزن بالفراق بأن الزمان الذي كان يضحكه أيام الوصال عاد فأبكاه،  فالزمان لم يتغير لكن حالهما هو الذي تغير من وصل إلى هجر.

     ثم يعود بالزمان إلى الوراء كعادة الشعر العربي راسمًا لنا لوحة ما قُبَيل الفراق إلى لحظة الفراق مكونة من ثلاثة عناصر هي تبادل ابن زيدون وولادة الحب والهوى وتحالف العدى والدهر عليهما حدوث الفرقة والجفوة بينهما، فقال:

    غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا***بأن نغص فقال الدهر آمينا

    فـانـحل ما كان معقـودًا بـأنفسنـا***وانـبت ما كان مـوصولًا بأيدينا

     وقـد نـكون ومـا يـخشى تفرقنـا***فـاليوم نحن ومـا يرجى تـلاقينا

    ونجد ابن زيدون هنا يكثف قدرته اللغوية للدلالة شدة الوصال بينهما، فجاء  بالصيغ الدالة على المشاركة وضمائر الجمع  فاستخدم "تساقي" على وزن" تفاعل" ونون المضارعة وهي كلها  دالة على الاجتماع والمشاركة، وكذلك الضمير "نا" في الأبيات الثلاثة، ثم استخدم أفعال المطاوعة في "انحل" و"انبت" كأن كليهما لم يريدا ذلك ولم يكن أيًّا منهما سبب ذلك، وتظهر براعة ابن زيدون الشعرية في هذه اللوحة في تجسيد الموقف بحركته وصوته، فالحركة الأولى هي حركة تبادل الهوى بينهما وكل منهما يسقي الآخر، ثم يظهر صوت العدى وهم يدعون بأن يغصا ويتبعه صوت الدهر وهو يقول آمين، فتتبعه حركة تقطع حبال الوصل بينهما، فكأننا نرى مشهدًا دراميًّا في صورة أبيات شعرية، ثم يختم المشهد ببيت يجمع ما حدث، فالشطر الأول يحكي ما قبل ظهور الصوت في اللوحة حان كان لا يخشى تفرقهما، والشطر الثاني يصف ما آل إليه الأمر بعد ظهور الصوت إذ أصبحا لا يرجى تلاقيهما.

    ثم يبدأ في رسم اللوحة الثالثة وهو فيها متحير ومتسائل كيف حدث ذلك أكان هذا إرضاء لأعدائه؟ فهو لم يرضِ أعداءها ولم يغير وفاءه لها، ثم يصف حاله بعد الفراق بإطناب عما في اللوحة الأولى ثم يذكرها بأيام الوصل فيظهر في هذه اللوحة متكلِّم وتظهر هي مخاطَبة فنرى يقول:

    يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم***هل نال حظًّا من العتبى أعادينا

    لـم نعتـقـد بـعـدكـم إلا الـوفـاء لـكم***رأيـًا ولـم نـتـقلـد غـيـره ديـنـا

    مـا حقـنا أن تـقروا عين ذي حسد***بـنـا ولا أن تسروا كـاشحًا فينـا

    كـنا لا نـرى الـيأس تسليـنا عوارضه***وقد يأسنا فما لليأس يغرينـا

    بـنـتـم وبـنـا فمـا ابتلت جوانـحنا***شـوقــًا إلـيكم ولا جـفت مـآقـيـنا

    نـكاد حـين تـناجـيكم ضمائرنـا***يـقضي عليـنا الأسـى لولا تأسينـا

    حـالـت لـفقدكم أيـامـنا فغدت***سـودًا وكـانـت بـكـم بـيـضًا لـياليـنا

    إذ جانب العيـش طلق من تألفنا***ومربع اللهو صافٍ من تصافينـا

    وإذ هصـرنـا فـنون الوصـل دانـية***قـطافـها فـجنـينـا منها ماشيـنا

    ليـسـقَ عـهدكم عهـد السـرور فمـا***كـنـتم لأرواحـنا إلا رياحــينـا

    لا تحـسـبوا نـأيـكم عنـا يـغـيرنـا***إذ طـالمـا غـيـر النـأي المحبيـنا

    والله مـا طلـبت هـواؤنـا بـدلًا**منكـم ولا انصـرفـت عنـكم أمانـيـنا

    ونرى هنا في البنية اللغوية لأبيات أن الضمائر قد انفصلت فأصبح يكلمها بـ"نحن" و"أنتم" وضمائر الجمع هنا للتعظيم وليست للمشاركة، فهو يقول لم نرصَ عن أعدائكم ولم نعتقد إلا الوفاء  فليتني أعلم هل أنتم أرضيتم أعداءنا؟ فنحن لا نستحق أن تسروا الأعداء فينا، فقد يأسنا مذ بنتم ويبس قلبنا وجف من كثرة الشوق إليكم بينما دموعنا تفيض حسرة عليكم، حتى إذا ما ذكرناكم نكاد نهلك من شدة الأسى ولولا أمل اللقاء لمتنا، فأيامنا تغيرت إلى سواد حين فقدنا ليالينا البيضاء حين كنا نلتقي بكم، ثم يشرع في ذكر أيام اللقاء فنجد ضمير الجمع عاد مرة أخرى في البيتين اللذين يتذكر فيهما أيام الوصل، ثم تظهر مرة أخرى ضمير المخاطب والمتكلم حين يدعو لعهد الوصل والسرور ويؤكد على وفائه لها، وكأنه في هذا كله يخاطبها وهي أمامه.

    ويبدأ في لوحة أخرى وكأنها قد بعدت عنه فيطلب من السحاب أن يذهب إلى قصرها ويمطره بالخير، ويأمره أن يسأل هل يتألم الحبيب حين يذكره كما يتألم هو عندما يذكره وقت المساء ويتذكر ما كان من لقاء في ذلك الوصل ويطلب من نسيم الصبا أن يبلغها تحيته فهو لا يعلم هل سيسمح الدهر بلقائهما مرة أخرى أم لا، ثم يبدأ في وصفها له فهي بنت الخلائف كأن الله خلقها مسكًا عندما خلق البشر من الطين أو خلقها من فضة وتوجه بالذهب، وحين تمشي تساعده العقود على إظهار محاسنه ورفاهيته ودلاله، والشمس كانت مرضعة لها رغم أنها لم تظهر لها إلا قليلًا، وكأن الكواكب والنجوم أثبتت في خده تزينه وتقيه من حسد الحاسدين، وما من ضرر إن كانت أسمى منا شرفًا فالمودة تكفي وتغني عن هذا، ثم ينتقل وكأن النسيم ذهب إليها ويكلمها بلسان ابن زيدون ويتودد إليها أحسن الصفات والنداءات واصفًا إياها بالروضة والحياة  والنعيم، فهو لم يسمها لعلو شأنها ويكتفي بوصفها لأن لا أحد يشاركها في وصفها ويخبرها بأنهما أصبحا كأنهما لم يلتقيا قط فإن صعب القاء بها في الدنيا فسوف يلقاها في موقف الحشر يوم القيامة بعد أن كنا سرين في قلب الظلمة، فلا عجب إن ذكرنا حزن حين ينهى عنه العقل فكأن النوى هو دين المحبين والأسى هو كتابهم المقدس الذي يلقنهم بعضهم لبعض ورغم ذلك فسيظل يشرب من منهل هواها إن كان يظميه للاشتياق ولا يرويه منه فهو لم يبعد مختارًا ولكنه أجبر على العبد لذلك يأسى عليها كلما شرب خمرًا أو أطربه المغنيون فهم يذكرونني بك ولا يلهونني عنك، فما من خليل ولا حبيب يمنعنا أو يصرفنا عنك  فدومي على العهد الذي كان بيننا حتى وإن لم يكن بيننا وصل فأظهري وفاء كما نظهر وفاء لك فطيفك الذي يأتينا في المنام يقنعنا وذكرك يكفينا وغاية الأمل أن تجيبينا بجواب لمسته يدك فسلام الله عليك منا ما دام شوقي إليك نخفيه عن الناس فيخفينا بالنحول فيقول:

     

    يا ساري البرق غاد القصر واسق به***من كان صرف الهوى والود يسقينا

    واســأل هنــالــك هــل عـنـى تـذكــرنـا***إلــفـًا تــذكــره أمــســى يــعــنــيـنا

    ويـا نسيم الصـبـا بـلـغ تـحـيـتـنا***مـن لـو عـلـى البعـد حيـا كـان يـحـييــنا

    فـهـل أرى الـدهـر يـقـضـيـنا مـساعـفـة***مـنـه وإن لم يـكـن غبًّا تـقـاضينا

    ربـيـــب مــلـــك كـــأن الله أنــشـأه***مـسـكًا وقـــدر إنـشـاء الـورى طـيـنـا

    أو صـــاغـــه ورقـــًا مــحضــًا وتوجه***مـن نــاصـع التبر إبداعًا وتحسينا

    إذا تــأود آدتــه رفـــاهـــــية***تــــــوم العــــقود وأدمتــــه البـــرى لــيــنــا

    كـــانــــت لـــه الشــمـــس ظــئــرًا في أكلته***بـل ما تجلى لها إلا أحايـيـنا

    كــأنـمــا أثــبــتـت في صحن وجنته***زهـــر الكــواكــب تعـويـذًا وتـزيينـا

    مـــا ضـــر إن لــم نكن أكــفاءه شـرفًا***وفــي المــودة كــافٍ من تكافينــا

    يــا روضــة طـالمـا أجـنـت لـواحـظـنا***وردًا جلاه الصبا غضُّا ونسريـنـا

    ويــا حـــياة تــمــليـنا بــزهــرتــهــا***مــنـًى ضــروبــًا ولـــذات أفــانـيـنـا

    ويــا نـعيــمًا خــطــرنا مـن غـضـارته***في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا

    لــسنــا نـسـمـيك إجـلالًا وتـكـرمـة***وقـدرك الـمـعـتلى  عـن ذاك يـغنينا

    إذا انـفـردت ومـا شـوركـت في صفة***فحسبنا الوصف إيضاحًا وتـبـيـينا

    يـا جنـة الـخلد أبــدلــنا بـسدرتـها*** والـكـوثـر الـعذب زقـومـًا وغـسـلـينا

    كـأنـنا لـم نـبـت والـوصـل ثـالـثنا***والسـعـد قـد غـض مـن أجـفان واشينا

    إن كـان قـد عـز فـي الـدنـيـا الـلـقاء بكم***في موقف الحشر نلقاكم وتلقونا

    سـران في خـاطـر الـظلـمـاء يـكـتـمـنا***حتـى يـكـاد لـسـان الصـبح يفشينا

    لا غـرو في أن ذكـرنا الحـزن حين نهت***عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا

    إنـا قـرأنـا الأسـى يـوم النـوى سـورًا***مـكـتوبـة وأخـذنـا الصـبـر تـلـقينا

    أمـا هــواك فلـم نـعدل بـمـنهلـه***شــربـًا وإن كــان يــرويـنـا فــيـظـمـيـنا

    لــم نـجـفُ أفـق جمــال أنــت كــوكبـه***سـاليـن عـنه ولـم نـهجـره قـاليـنا

    ولا اخـتـيـارًا تـجـنـبنـاه عــن كــثب***لـكـن عــدتـنا عـلـى كــره عواديـنـا

    نـأســى عـلــيـك إذا حـثــت مـشـعـشعة***فـيـنا الشـمـول  وغـنانـا مـغـنيـنا

    لا أكـــوس الــراح تــبدي من شمائـلـنا*** سـيمـا ارتياح ولا الأوتار تلهينا

    دومـي عـلى العـهـد مـا دمـنا مـحافـظة***فالـحـر مـن دان إنصافـًا كما دينا

    فـما اسـتـعضـنا خـلـيلًا مــنـك يـحبسنا***ولا اسـتـفدنا حبـيبـًا عنـك يثـنيـنـا

    ولو صــبا نـــحونــا من عـلـو مطلعه***بدر الدجـى لم يكن حاشاك يصيبنا

    أولـي وفــاء وإن لـم تــبذلــي صــلـة***فالــطــيـف يقنعـنا والـذكر يكفـينـا

    وفـي الجـواب مـتـاع إن شـفـعــت به***بـيـض الأيادي التي ما زلت تولينا

    عـلـيك مـنـا سـلام الله مـا بـقيـت***صـبـابـة بــك نــخــفــيـهــا فــتـخـفـينـا

    كما نرى فإن هذه اللوحة هي أكبر لوحات القصيدة وتعتبر غرض القصيدة الأول الذي يؤكد فيها على وفائه لها ويطلب منها الحفاظ على ما عهده منها من وفاء ومودة، ولعل الفارق بين هذه اللوحة واللوحة التي سبقتها أن اللوحة الأولى كان يتحدث فيها عن الفترة التي حدث فيها الهجر وتبدل الود بينهما ولكنه حينها كان موجودًا في قرطبة وهي أمام عينه لذلك نجد الخطاب موجهًا إليها مباشرة ونجد ذكر الأعادي والحساد ما زال موجودًا ولعله يقصد الوزير ابن عبدوس وله فيه الضادية المشهورة والرسالة الهزلية، لذلك تظهر لغة العتاب في اللوحة الأولى عن طريق التساؤل، أما اللوحة الثانية فهي تتحدث عن الفترة التي انتقل فيها إلى إشبيلية لذلك استخدم السحاب والنسيم كرسولين إليها أتى بألفاظ دالة على البعد كاستخدام الظرف "هنالك" للإشارة للبعد المكاني، فكما يقول اللغويون إن "هنا" للإشارة للقرب المكاني و"هناك" للإشارة للتوسط المكاني و"هنالك" للبعد المكاني، كما استخدم لفظ "البعد" صراحة، وأيضًا يستدعي صورتها من خلال وصفها، ويلمح إلى أنه لم يختر ترك قرطبة والبعد عنها لكنه اضطر إلى ذلك مشبهًا قرطبة بالأفق المزين وولادة بكوكبه المنير، فكان من الطبيعي أن يظهر ابن زيدون في ثوب المعاتب الذي يرجو اللقاء ثانية في الصورة الأولى حيث يجمعهما المكان ويبعدهما حسد الحساد والأعادي، وفي الصورة الثانية يظهر في صورة الثانية في ثوب اليائس الذي لا يرجو اللقاء فيقنع بأقل الأشياء كأن تظهر الوفاء له ويكتفي برؤية طيفها ويتمنى أن تجيبه بما كتبت يديها ويؤكد أن سلامه عليها دائم ما دام شوقه إليها.

     التعليق العام على القصيدة

    جاءت القصيدة على إيقاع معبر عن حالة شاعرها، ألفظها رقيقة كرقة موضوعها، تقسيم اللوحات كان موفقًا فلوحة الوصال جاءت في ثلاثة أبيات كأنهما لم يبيتا والوصل ثالثهما، ولوحة الهجر الأولى حيث كان الشاعر في قرطبة جاءت قصيرة كقصر هذه الفترة، والثانية طويلة فهي تمثل طول حياة الشاعر منذ خروجه إلى إشبيلية، والشعوران فيهما منطقيان ففي الأولى يائس يبكي والثانية آسٍ يقنع، أسلوب الشاعر في القصيدة كلها قائم على المقارنة بين عهد الوصل وعهد الهجر مما جعل القصيدة مجموعة من المقابلات البلاغية تكون مقابلة كبرى بليغة، تجربة القصيدة حقيقية وجدانية صادقة بعيدة عن الأعراف الشعرية غالبًا فكانت القصيدة جديرة بمكانتها الأدبية جذابة لقرائح الشعراء فطفقوا يعارضونها ويشطرونها ويخمسونها.    

    حازم غيث
    @مرسلة بواسطة
    كاتب لدى موقع أندلسية .