عبد الرحمن النَّاصر:
عبد الرحمن بن محمد، ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد
الرحمن بن الحكم الربضي بن هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل. كنيته. أبو المطرف.
لقبه: الناصر لدين الله.
أمه: أم ولد
تسمى مزنة.
ولد تقريباً في
عام 277هـ وقد قتل أباه في هذا العام وقد مر على مولده واحد وعشرين يوماً.
سار عبد الرحمن
بن محمد الملقب بالناصر لدين الله على نهج عبد الرحمن الداخل، فجاهد الكفار وردهم
بغيظهم وكانت ولايته كلها جهاد في سبيل الله، وكان لا يمل الغزو في سبيل الله مدة
ولايته التي استمرت خمسين سنة، لم يعرف خلالها طعماً للرحة فقد وجد بخطه تأريخ قال
فيه: أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في مدة سلطاني يوم كذا من شهر كذا من سنة
كذا. فعدت تلك الأيام؛ فوجد فيها أربعة عشر يوما.
كان عبد الرحمن
بن محمد الأموي الذي لقب فيما بعد بالناصر لدين الله وأول من لقب بأمير المؤمنين
من أمراء الأندلس الكثير من الفتوحات في الأندلس.
قال عنه الذهبي
في سير أعلام النبلاء:لم يزل عبد الرحمن يغزو حتى أقام العوج، ومهد البلاد، ووضع
العدل، وكثر الأمن، ثم بعث جيشا إلى المغرب، فغزا برغواطة بناحية سلا، ولم تزل كلمته
نافذة، وسجلماسة، وجميع بلاد القبلة، وقتل ابن حفصون.
وصارت الأندلس أقوى ما كانت وأحسنها حالا، وصفا وجهه
للروم، وشن الغارات على العدو، وغزا بنفسه بلاد الروم اثنتي عشرة غزوة، ودوخهم،
ووضع عليه الخراج، ودانت له ملوكها، فكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف رجل يصنعون
في بناء الزهراء التي أقامها لسكناه على فرسخ من قرطبة.
وساق إليها أنهارا، ونقب لها الجبل، وأنشأها مدورة، وعدة
أبراجها ثلاث مئة برج، وشرفاتها من حجر واحد، وقسمها أثلاثا: فالثلث المسند إلى
الجبل قصوره، والثلث الثاني دور المماليك والخدم، وكانوا اثني عشر ألفا بمناطق
الذهب، يركبون لركوبه، والثلث الثالث بساتين تحت القصور.
وفُتح في عهده
فتوحات كثيرة وكان لا يمل ولا يكل من الجهاد في سبيل الله ومن الفتوحات التي تمت
في عهده فتح مطونية وكانت سنة 306هـ، وكان سببها أن المشركين تطاولوا على من كان
بإزائهم من أهل الثغور، فأمر بالاحتفال في الحشد وجمع الرجال والتكثير من الأجناد
والفرسان الأبطال. وعهد إلى حاجبه بالغزو بنفسه في الصائفة. ونفذت كتبه إلى أهل
الأطراف والثغور بالخروج إلى أعداء الله، والدخول في معسكره، والجدّ في نكاية أهل
الكفر، والإيقاع بهم في أواسط بلادهم، ومجتمع نصرانيتهم.
وبعد أن فصل
الحاجب بالجيوش انثالت إليه العساكر من كل جهة في أٌرب ثغور المسلمين؛ ودخل بهم
دار الحرب، وقد انحشد المشركون، وتجمعوا من أقاصي بلادهم، واعتصموا بأمنع أجبلهم؛
فنازلهم الحاجب بدر بن أحمد بأولياء الله وأنصار دينه؛ فكانت له على أعداء الله
وقائع اشتفت فيها صدور المسلمين، وانتصروا على أعداء الله المشركين. وقتل في هذه
الغزاة من حماتهم، وأبطالهم، وصلاة الحروب منهم، جملة عظيمة لا يأخذها عدٌّ، ولا
يحيط بها وصف. وكان الفتح يوم الخميس لثلاث خلون من ربيع الأول ويوم السبت لخمس
خلون من ربيع الأول، في معارك جليلة، لم يكن أعظم منها صنعا، ولا أكثر من أعداء
الله قتيلا وأسيرا.
وكان الأمير
الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد يخرج على رأس الجيوش للغزو ومن الغزوات التي
كان على رأسها غزاة مويش، والتي كانت في سنة 308، فتأهب لهذه الغزاة يوم الخميس
لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة 307؛ ثم فصل غازيا من قصر قرطبة حتى نزل بمخاضة
الفتح،وقد ورد عليه كتاب من عاملها يخبره بإغارة المشركين من أهل جليقية على ما
لاقوه في بسيطهم من الدواب والسوام، ثم تحصنوا بحصن قريب منهم يعرف بالقليعة؛
فأرادوا التغلب عليه إلا أن أهل المدينة برزوا إليهم راجلهم وفارسهم حتى منهحم
الله أكتاف الكفرة فانتصروا عليهم، واستبشر الناصر لدين الله خير بهذا النصر على
المشركين ثم نهض آما لوجهته، وقد اجتمعت العساكر واحتشدت الحشود فالكل يريد أن
يغزو في سبيل الله ويرفع راية الإسلام، وخرج معه أهل طليطلة، وخرج للجهاد معه أهل
مدينة الفرج. ونهض أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - بما اجتمع معه رحمه الله من
جنو، وكان قد أظهر - رحمه الله - التوجه إلى الثغر الأقصى. وقدمت المقدمة نحوه، ثم
عرج بالجيوش إلى طريق آلية والقلاع، وطوى من نهاره ثلاث مراحل، حتى احتل بوادي
دوبر؛ فاضطربت العساكر فيه، وباتت عليه.
وأرسل إلى حصن
وخشمة وزيره سعيد بن المنذر في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، فأغدَّ السير حتى قرب
من الحصن، وسرح الخيل المغيرة يمنة ويسرة، والمشركون في سكون وغفلة، إذ كان العلج
الذي يلي أمورهم قد كاتب أمير المؤمنين - رحمه الله -، مكايدا له في إزاحته عن
بلده بمواعيد وعدها من نفسه؛ فأظهر أمير المؤمنين - رحمه الله - قبول ذلك منهم،
وأضمر الكيد بهم؛ فغشيتهم الخيل المغيرة على حين غفلة، وأصابوا نعمهم وسوامهم
ودوابهم مسرحة مهملة؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكر سالمين غانمين.
واندفعت الجيوش
في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، في أكمل تعبئة، وأهذب ترتيب، وأوكد
ضبط، وأبلغ حزم وعزم، إلى حصن وخشمة؛ ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض
الأشبة، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحصن، وغنموا جميع ما فيه وأضرموه،وبعد
أن أتم الله فتح هذا الحصن رحل الناصر لدين الله إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت
أشتبين، بيضة المفرة، وقاعدتهم، والموضع الذي كانوا تعودوا فيه الاستطالة على من
وردهم. فلما رأوا أن الناصر قادم إليهم بجيوش المسلمين، أخلوا الحصن وخرجوا هاربين
عنه؛ فدخله المسلمون، وغنموا جميع ما فيه؛ وخربوا حصن القبيلة المجاور له، ولم
يترك لأعداء الله في تلك الجهة نعمة يأوون إليها.
وبات المسلمون
في هذه الليلة بأسر ليلة كانوا بها، والحمد لله.
وتعقب الناصر
لدين الله في اليوم الثاني الهاربين من الحصن ولم يكن بين الموضعين إلا قدر ميل؛
فكسر العسكر في ذلك المكان يوم الأحد متقصيا لآثار الكفرة، ومستبيحا لنعمهم. ثم
ارتحل إلى مدينة لهم تعرف بقلونية، وكانت من أمهات مدنهم؛ فلم تمر الجيوش إليها
إلا على قرى منتظمة وعمارة بسيطة؛ فغنمت جميع ما كان بها، وقتلت من أدركت فيها،
حتى أوفت العساكر على المدينة؛ فألقيت خالية، قد شرد عنها أهلها إلى الأجبل
المجاورة لهم؛ فغنم المسلمون جميع ما أصابوا فيها، وعملت الأيدي في تخريب ديارها
وكنائسها. وكسر الناصر - رحمه الله - عليها ثلاثة أيام، مطاولا لنكاية المشركين،
وانتساف نعمهم. ثم ارتحل - رحمه الله - من مدينة قلونية إلى ثغر طليطلة، لغياث
صريخ المسلمين به، إذ كان العلج شانجه قد ضايقهم، وتردد عليهم؛ فأخذ الناصر - رحمه
الله - بالرفق في نهوضه، لئلا يعنف على المسلمين بحث السير مع اتصال سفرهم؛
فاستقبل بالجيوش قطع المفاز الأعظم، مسايرا لوادي دوير، وقطع في ذلك خمس محلات،
حتى احتل حوز طليطلة؛ ثم قدم الخيل مع محمد ابن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان
اتخذه شانجه على أهلها. فلما قصدته الخيل، أخلاه من كان فيه، وضبطه المسلمون.
ثم نهض - رحمه
الله - إلى حصن قلهرة. وكان شانجه قد اتخذه معقلا، وتبوَّأه مسكنا. فلما فجأته
العساكر، أخلاه العلج، وزال عنه؛ فغنمه المسلمون بأسره؛ وكسر الناصر - رحمه الله -
عليه يومين حتى خرب جميعه، وانتسف كل ما كان حواليه. ثم رحل بالجيوش دي شره، وأجاز
إليها وادي إبره؛ فخرج شائجه من حصن أرنيط في جموعه وكفرته، متعرضا لمن كان في
مقدمة العسكر؛ فتبادر إليه شجعان الرجال، تبادر رشق النبال؛ فانهزم الكفرة،
وركبتهم الخيل، تقتل وتجرح، حتى تواروا في الجبال، ولاذوا بالشعاب وأيقنوا بالدمار
والهلاك. وحيز كثير من رؤوس المشركين؛ فتلقوا بها أمير المؤمنين - رحمه الله -،
ولا علم عنده المعركة التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكر بهذا
الموضع، وبات المسلمون ظاهرين على عدوهم، ومنبسطين في قراهم ومزارعهم.
وورد الخبر على
الناصر - رحمه الله - باجتماع العلجين أرذون وشانجه، واستمداد بعضهما ببعض، طامعين
في اعتراض المقدمة، أو انتهاز فرصة في الساقة. فأمر الناصر - رحمه الله - بتعبئة
العساكر، وضبط أطرافها؛ ثم نهض بها موغلا في بلاد الكفرة؛ فتطللوا على كدّي مشرفة
وأجبل منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطراف الجيش، وجعلوا يتصابحون، ويولولون ليضعنوا
من قلوب المسلمين؛ فعهد الناصر - رحمه الله - بالنزول والاضطراب وإقامة الأبنية.
ثم تبادر الناس إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الأجبل؛ فواضعوهم القتال،
واقتحم عليهم حشم أمير المؤمنين ورجاله وأبطال الثغر وحماته، ويضعون أسلحتهم فيهم،
ويمطرون رماحهم عليهم، حتى انهزم المشركون، لا يلوون على مكان مضطربهم، ولا يهتدون
لوجه متقلبهم، والمسلمون على آثارهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظلام
بينهم.
ولجأ عند
الهزيمة أزيد من ألف علج إلى حصن مويش، ورجوا التمتع فيه. فأمر الناصر بتقديم
المظل وأبنية العسكر إلى الحصن؛ فأحبط به من جميع جهاته، وحوربوا داخله حتى تغلب
عليه، واستخرج جميع العلوج منه، وقدموا إلى الناصر - رحمه الله -؛ فضربت رقاب
جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصن والمحلة التي كانت للكفرة بقربه من الأمتعة
والأبنية والحلية المتقنة والآنية ما لا يحصى كثرة؛ وأصيب لهم نحو ألف وثلاثمائة
فرس. وكسر أمير المؤمنين - رحمه الله - بهذه المحلة أربعة أيام، يغير جميع ما
حواليها من نعم المشركين وثمراتهم ومزارعهم؛ ثم انتقل - رحمه الله - يوم الأحد
لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصن كان أتخذه شانجه على أهل بقيرة؛ فألقاه
خاليا، قد فرَّ عنه أهله؛ فعهد بهدمه، ولم يبرح أمير المؤمنين - رحمه الله - من
محلته هذه حتى انتقل إلى حصن بقيرة من أطعمة الكفرة ألف مُدي تقوية لأهله.
ثم انتقل إلى
حصون المسلمين يسكنها وينظر في مصالح أهلها؛ فكلما ألفى بقربها معقلا للمشركين،
هدمه وأحرق بسيطه، حتى لقد اتصل الحريق في بلاد المشركين عشرة أميال في مثلها.
واجتمع عند الناس من الأطعمة والخيرات ما عجزوا عن حمله، ولم يجدوا لها ثمنا تباع؛
وكان القمح في العسكر تبذل ستة أقفزة بدرهم؛ فلا يوجد من يشتريه، وقفل الناصر -
رحمه الله - يوم الثلاثاء. لثلاث بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛
فكسر - رحمه الله - بها يوما، ووصل رجال الثغر، وكساهم، وحملهم، وأذن لهم في
الرجوع إلى مواضعهم. وبعث إلى قرطبة من رؤوس الكفرة التي أصيبت في المعارك
المذكورة أعدادا عظيمة، حتى لقد عجزت الدواب عن استيفاء حملها. ودخل - رحمه الله -
القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاته هذه تسعين
يوما.
لقد أمضى
الناصر لدين الله مدة ولايته التي استمرت خمسين عاماًًًًً غازياً ومجاهداً في سبيل
الله، ولم يعرف عنه التواني عن نصرة الدين أو الخذلان ولكنه كان ذا همة عالية
ومطالب سامية.
قالوا عنه
قال عنه
الذهبي: كان لا يمل من الغزو، فيه سؤدد وحزم وإقدام، وسجايا حميدة، أصابهم قحط،
فجاء رسول قاضيه منذر البلوطي يحركه للخروج، فلبس ثوبا خشنا، وبكى واستغفر، وتذلل
لربه، وقال: ناصيتي بيدك، لا تعذب الرعية بي، لن يفوتك مني شئ.
فبلغ القاضي،
فتهلل وجهه، وقال: إذا خشع جبار الأرض، يرحم جبار السماء، فاستسقوا ورحموا.
وكان - رحمه الله - ينطوي على دين، وحسن خلق ومزاح.[2]
يقول فيه أحمد
بن عبد ربه الأندلسي:
قد أوضحَ اللّه
للإِسلام مِنهاجَا *** والناسُ قد دَخلوا في الدِّين أفواجَا
وقد تَزينت
الدُّنيا لساكنها *** وكأنما ألْبست وَشْياً ودِيباجا
يا بنَ الخلائف
إنّ المُزن لو عَلمت *** نَداك ما كان منها الماءُ ثجَاجا
والحربُ لو
علمت بأساً تَصول به *** ما هًيجت من حُميّاك الذي اهتاجا
ماتَ النِّفَاق
وأعطى الكُفْرُ ذِمّتَه *** وذلّت الخَيل إلجاماً وإسراجا
وأصبح النصرُ
معقوداً بألْوية *** تَطْوي المراحلَ تَهْجِيراً وإِدْلاجا
أدخلتَ في قُبة
الإسلام مارقةً *** أخرجتَهم من ديار الشِّرك إخراجا
بجَحْفل
تَشْرَقُ الأرض الفضاءُ به *** كالبَحر يَقْذِف بالأمواج أمواجا
يقوده البدرُ
يَسْرِي في كواكبه *** عَرمرماً كسواد اللّيل رجْراجا
تَرُوق فيه
بُرِوق الموت لامعةً *** وتَسْمعون به للرَّعد أهْزَاجا
غادرتَ في
عَقْوتي جَيَّان مَلْحمةً *** أبكيتَ منها بأرض الشرِّك أعلاجا
في نِصْف شهر
تركتَ الأرضَ ساكنةً *** من بعدما كان فيها الجَوْرُ قدماجا
وُجِدتَ في
الخبر المأثور مُنْصلتاً *** مِن الخلائف خَراجاً وولاجا
تُملأ بك الأرض
عدلاً مثل ما مُلئت *** جَوْراً وتُوضِحُ للمَعروفِ مِنْهاجا
يا بَدْر
َظُلمتها يا شَمْسَ صُبحتها *** يا ليْثَ حَوْمتها إنْ هائجٌ هاجا
إنّ الخلافةَ لن تَرْضىَ ولا رَضِيت *** حتى عَقدت لها
في رَأسك التَّاجا
لقى الناصر
لدين الله ربه بعد حياة حافلة بالجهاد في سبيل الله وعمره: ثلاث وسبعون سنة وسبعة
أشهر. وقد توفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شهر رمضان المعظم سنة 350هـ؛ فكانت
خلافته خمسين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام.
الحكم
بن عبد الرحمن الناصر:
استخلف عبد الرحمن الناصر من بعده ابنَه الحَكَمَ، الذي تولَّى
من سنة (350هـ= 961م) إلى سنة (366هـ= 976م)، وتلقب بالمستنصر بالله، وكان يوم
تولَّى في نحو السابعة والأربعين من عمره، وكان أبوه يُقَرِّبُه ويعتمد عليه في
كثير من الأمور؛ فكان ذا خبرة بشئون الحُكم والسياسة، وكان عبد الرحمن الناصر قد
استطاع توطيد أركان الدولة، والقضاء على الفتن، وهو ما يَسَّر للحَكَم المستنصر
فيما بعدُ أن يَصِلَ بالأندلس في عهده إلى أعلى درجات الرقي الحضاري، وأن تحدُث في
عهده نهضة علمية وحضارية غير مسبوقة.
المكتبة الأموية في قرطبة
يقول عنه ابن الخطيب:
«وكان -رحمه الله- عالمًا فقيهًا بالمذاهب، إمامًا في معرفة الأنساب، حافظًا
للتاريخ، جمَّاعًا للكتب، مميِّزًا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مِصرٍ وأوان،
تجرَّد لذلك وتهمم به؛ فكان فيه حجة وقدوة وأصلاً يُوقف عنده». ويقول عما وصلت
إليه الأندلس في عهده من الرقي والتحضر: «وإليه انتهت الأبهة
والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية».
أنشأ الحكم بن عبد
الرحمن المكتبة
الأموية، تلك التي تُعَدُّ أعظم مكتباتِ العصور الوسطى على
الإطلاق، وكانت تُنافس مكتبة قُرْطُبَة ومكتبة بغداد، وقد دفع
آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمَّال
وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير
بلاد المسلمين، فإذا جاءوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد
غير إسلامي تُرجِمَ على الفور وضُمَّ إلى المكتبة الأموية، وقد وسَّع الحَكم بن
عبد الرحمن الناصر في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أَرْوِقَةً عظيمةً حتى تستوعب كثرة
الحضور من المسلمين.
وكان الحكم المستنصر
–رحمه الله- يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، وقد أحضر في مكتبته هذه
النسخةَ الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني (وهو كتاب في
الأدب) وأصفهان هذه الآن من مدن إيران، فأين إيران من إسبانيا الآن؛
فالرجل لم تكن تقف أمامه التخوم ولا الحدود!
وكَثُرَ النَّسخُ في
عصره، حتى قال ابن خلدون: «وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ، والمهرة في الضبط،
والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن
لأحد من قبله ولا من بعده، إلاَّ ما يُذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء».
ومن مآثره أنه رَتَّب
معلمين ومربين يُعَلِّمون أولاد الفقراء والضعفاء، وأنفق على أجورهم من بيت المال،
وبلغت دور التعليم هذه سبعًا وعشرين؛ ثلاثة منها حول جامع قُرْطُبَة، وباقيها في
ضواحي المدينة.
كما أنشأ –رحمه الله- جامعة
قُرْطُبَة، التي كان مقرها في المسجد الجامع الكبير، وتدرس في
حلقاتها مختلف العلوم، وكان يُدَرِّس الحديث أبو بكر بن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام،
وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يُدَرِّس النحو، وكان يُدَرِّس
باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يُعَدُّون بالآلاف.
علماء الأندلس في عصر الحكم المستنصر
أبو بكر الزُّبيدي (316-379هـ= 928-989م)
نزيل قُرْطُبَة،
ونسبته إلى زُبيد، وهي قبيلة كبيرة باليمن، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ
اللغة، وكان أخبرَ أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر إلى علم السير والأخبار،
ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدلُّ على وفور علمه؛ من أشهرها:
«مختصر كتاب العين»، وكتاب «طبقات النحويين والغويين بالمشرق والأندلس» من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي
الرَّبَاحي، وكتاب «الأبنية في النحو» ليس لأحد مثله.
وقد اختاره
الحَكَم لتأديب ولده وولي عهده هشام، فكان الذي علمه الحساب والعربية،
وتولَّى قضاء إِشْبِيلِيَة وخُطة الشرطة، وكان كثير الشعر؛ فمن
ذلك قوله في أبي مسلم بن فهر: [الطويل]
أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّ
الْفَتَى بِجَنَانِهِ *** وَمِقْوَلِهِ لا بِالْمَرَاكِبِ وَاللبْسِ
وَلَيْسَ ثِيَابُ
الْمَرْءِ تُغْنِي قُلامَةً *** إِذَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى قِصَرِ النَّفْسِ
وَلَيْسَ يُفِيدُ
الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالْحِجَا *** أَبَا مُسْلِمٍ طُولُ الْقُعُودِ عَلَى
الْكُرْسِي
ابن القوطية
وهو أبو بكر محمد بن
عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم، وقد أوردنا اسمه الكامل لأن له
حكاية طريفة، فجده الأخير عيسى بن مزاحم هو الذي تزوج من سارة
القوطية حفيدة يُليان الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس وساعد فيه.
لما مات
يُليان ترك ولدين هما إيفا وسيزبوت، ولم يلبث أن مات إيفا وقد أنجب
ولدين وسارة، لكن العم سيزبوت اغتصب نصيب أبيهم، فبادرت سارة بالسفر مع أخويها إلى
الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في دمشق، فأنصفها
وقضى لها برد ميراث أبيها، وفي دمشق تزوجت سارة من عيسى بن مزاحم، وأنجبت منه
إبراهيم وإسحاق، ثم كان من نسل إبراهيم صاحبنا المؤرخ أبو بكر الذي عُرِفَ
-لهذا- بلقبه «ابن القوطية».
كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، يروي الحديث والفقه والأخبار والنوادر، وكان
من أكثر الناس رواية للأشعار، وإدراكًا للآثار، وكان مضطلعًا بأخبار الأندلس،
عارفًا بسير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها، يُملي ذلك عن ظهر قلب، وكانت كتب
اللغة أكثر ما تُقرأ عليه وتُؤخذ عنه، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة،
وروى عنه الشيوخ والكهول؛ وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من
النقل من فوائدهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة؛ منها: كتاب «تصاريف الأفعال»، وهو
الذي فتح هذا الباب، وكتاب «المقصور والممدود»، جمع فيه ما لا يُحَدُّ ولا يُوصف، ولقد
أعجز به مَنْ يأتي بعده، وفاق مَنْ تَقَدَّمه، وكان الأديب الكبير العلامة اللغوي
أبو علي القالي يُبالغ في تعظيمه، حتى قال له الحكم المستنصر: مَن أنبل مَنْ
رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال القالي: محمد ابن القوطية.
وكان مع هذه الفضائل
من العُبَّاد النسَّاك، جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع
والمقاطع، حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجَّه يومًا إلى ضيعة
له بسفح جبل قُرْطُبَة، فصادف أبا بكر ابن القوطية في الطريق، قال: فلمَّا
رآني عرج عَلَيَّ واستبشر بلقائي، فقلتُ له على البديهة مداعبًا له: [البسيط]
مِنْ أَيْنَ
أَقْبَلْتَ يَا مَنْ لا شَبِيهَ لَهُ *** وَمَنْ هُوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيَا لَهُ
فَلَكُ
قال: فتبسم وأجاب
بسرعة:
مِنْ مَنْزِلٍ
يُعْجِبُ النَّسَّاكَ خُلْوَتُهُ *** وَفِيهِ سَتْرٌ عَلَى الْفُتَّاكِ إِنْ
فَتَكُوا.
قال: فما تمالكتُ أَنْ
قَبَّلتُ يده؛ إذ كان شيخي، ومجدتُه ودعوتُ له.
هشام المعتد بالله وسقوط الخلافة الأمويَّة:
ولما انقطعت دعوة يحيى بن علي الفاطمي عن قرطبة في التاريخ الذي
ذكرنا، أجمع رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أمية، وكان عميدهم في ذلك والذي
تولى معظمه وسعى في تمامه، الوزير أبو الحزم جَهْوَر بن محمد بن جهور بن عبيد الله
بن محمد بن الغَمْر بن يحيى بن عبد الغافر بن أبي عَبْدة3. وقد كان ذهب كل من
ينافس في الرياسة ويخُب في الفتنة بقرطبة؛ فراسل جهور من كان معه على رأيه من أهل
الثغور والمتغلبين هنالك على الأمور، وداخلهم في هذا الأمر، فاتفقوا بعد مدة طويلة
على تقديم أبي بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وهو أخو
المرتضي المذكور آنفًا.
وكان هشام هذا مقيمًا بحصن يدعى البُنْت، من الثغور، عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم القائد المتغلب بها؛ فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة 418، تلقب بـ المعتد بالله.
وكان هشام هذا مقيمًا بحصن يدعى البُنْت، من الثغور، عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم القائد المتغلب بها؛ فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة 418، تلقب بـ المعتد بالله.
كان مولده في سنة 364، وكان أسن من أخيه المرتضي بأربعة أعوام،
وسنه يوم بويع له أربع وخمسون سنة، أمه أم ولد اسمها: عاتب.
فبقي ينتقل في الثغور ثلاثة أعوام لا يستقر بموضع، ودارت هنالك
فتن عظيمة بين الرؤساء المتغلبين واضطراب شديد، إلى أن اتفق أمرهم واجتمع رأيهم
على أن يسير إلى قرطبة قصبة الملك. فسار إليها ودخلها في الثامن من ذي الحجة سنة
420، فلم يقم بها إلا يسيرًا حتى قامت عليه طائفة من الجند، فخلع، وجرت أمور يطول
شرحها، من جملتها إخراج المعتد بالله هذا من قصره هو وحشمه، والنساء حاسرات عن
أوجههن، حافية أقدامهن، إلى أن أُدخلوا الجامع الأعظم على هيئة السبايا، فأقاموا
هنالك أيامًا يُتعطف عليهم بالطعام والشراب، إلى أن أُخرجوا عن قرطبة.
ولحق هشام ومن معه بالثغور بعد اعتقالٍ بقرطبة، فلم يزل يجول في
الثغور إلى أن لحق بابن هود المتغلب على مدينة لَارِدة وسَرَقُسْطة وأَفْرَاغة
وطَرْطوشة وما والى تلك الجهات، فأقام عنده هشام إلى أن مات في سنة 427 ولا عقب
له؛ فهشام هذا آخر ملوك بني أمية بالأندلس.
نسبه: هو هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر بن
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل
ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم.
وبخلعه انقطعت الدعوة لبني أمية وذكرهم على المنابر بجميع أقطار
الأندلس والعدوة إلى الآن.
فهذا آخر ما انتهى إلينا من أخبار بني أمية بالأندلس على شرط التلخيص.
فهذا آخر ما انتهى إلينا من أخبار بني أمية بالأندلس على شرط التلخيص.