جامع قرطبة من الخارج |
جامع قرطبة بديعة المسلمين في الأندلس، ويعد من أشهر وأقدم آثارهم فيها، والذي تصدر قائمة الكنوز الإسبانية في عام 2007 ميلاديًّا، وكان معبدًا وثنيًّا في عهد الروم، ثم كنيسة في عهد القوط الغربيين، وعندما دخل المسلمون قرطبة شاطروا النصارى كنيستهم وبنوا في شطرهم مسجدًا للصلاة، وفي عهد عبد الرحمن الداخل اشترى ما تبقى من الكنيسة وهدمها هي والمسجد القديم وأسس مكانهما جامع قرطبة الذي كان يعرف بجامع الحضرة، وبعد سقوط الأندلس حول الإسبان الجامع إلى كاتدرائية كاثوليكية تسمى بكتدارئية "سانتا ماريا الكبرى" وتعرف من قبل سكان قرطبة باسم كاتدرائية "مـِسكيتا/ Mezquita" وتعني مسجد باللغة الإسبانية.
وتمتد مدة بناء المسجد من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الحادي عشر، احتضن فيها مجد الفن الأندلسي الأموي.
وصف مسجد قرطبة
يتألف مسجد قرطبة من الحرم والصحن والمئذنة ويبلغ بعداه 180×135 مترًا أي تبلغ مساحته 24300 متر مربع، ويُدخل إلى الصحن المكشوف الواقع إلى جهة الشمال من أحد أبواب المسجد التسعة عشر وكلها من البرونز ويطلق على الصحن باحة البرتقال أو فناء النارنج.
يبدو بناء المسجد كقلعة ذات أسوار وأبراج، بلغ ارتفاع المئذنة 23.5مترًا، وقد تهدمت وكانت تعدُّ من عجائب الدنيا. وجدران الجامع سميكة مشيدة من الحجارة.
أما الحرم فيحتوي على صفوف من الأعمدة قدّر ما كان من عددها إبان الحكم العربي بين 1013 و1290 عمودًا لم يبق منها إلى اليوم سوى 856 عمودًا، وهي من المرمر والرخام وحجر اليَشَب والحجر السماقي، تزينها تيجان أعيد استعمالها من أبنية قديمة، ويحتوي الحرم أيضًا على مقصورة رصفت أرضها بالفضة والقاشاني وتعلوها ثلاث قباب مزخرفة، ويعلو محراب المسجد سبع نوافذ تعبيرًا عن السموات السبع.
ضم الحرم أحد عشر جناحًا عمودية على الجدار القبلي، ويعد ذلك إبداعًا عربيًا متفردًا، وقام المعمار بمضاعفة الأقواس رأسيًّا وذلك بتحميل وسائد التيجان، إضافة إلى الأقواس، جوائز متقاطعة بين أطراف الأقواس فغدت الأقواس المزدوجة تسند السقف ولا يوجد أي جدار بين صفي الأقواس، وهذا ما أدى إلى تعلية سقوف الحمام من دون أن تتعرض الدعامات للانهيار.
أما سقف المسجد وجدرانه فقد نقشت عليها آيات من القرآن الكريم وزينت بزخارف مؤطرة، أو بلوحات جدارية زخرفية من الفسيفساء أو من الزجاج المطلي بالميناء، ومنها ما رصّع بالفضة والذهب، وكان المسجد يضاء بمئتي ثريا تحمل سبعة آلاف قنديل من الزيت المعطّر.
أما المحراب فهو تجويف سباعي الأضلاع مطلي بالذهب ومزين بالفسيفساء من الميناء المزجج ومزخرف بقطع من الرخام وبنقوش من الذهب على أرضية زرقاء وقرمزية، ويعلو المحراب رباط من الأعمدة الرشيقة والعقود المزينة، أما المنبر فيعد أجمل منبر في العالم لأنه يتألف من سبع وثلاثين قطعة من العاج ومن الأخشاب المعطرة النادرة مثل خشب الأبنوس وعود الند والصندل وكلها مطعمة بالجواهر، أما المسامير التي تثبت المنبر فهي من الفضة والذهب.
المحراب |
كان المسجد الجامع في قرطبة مكان عبادة ومركزًا فكريًّا غاية في الأهمية لأنه احتوى على مدرسة وعلى مكتبة ضخمة تضم نحو 400000 مخطوطة مجلدة بالجلد القرطبي المزخرف وضعت في متناول الدارس من مختلف الأديان والأجناس.
البناء الأول في عصر الولاة
عندما دخل المسلمون قرطبة عام 92 هجريًّا وجدوا للنصارى كنيسة كبرى فقاسموهم إياها وبنوا في شطرهم مسجدًا للصلاة ركز قبلته التابعي حنش الصنعاني، ولما ضاق المصلى على المسلمين مع الزمن علقوا فيه سقائف متتابعة يقل ارتفاعها تدريجيًّا كلما اتجهوا شمالًا بسبب ارتفاع مستوى الأرض حتى أصبحوا يجدون صعوبة في دخوله لقلة ارتفاعه، وظل المسجد هكذا حتى دخل عبد الرحمن الداخل قرطبة وجعلها دار إمارته.
البناء الثاني في عهد عبد الرحمن الداخل
عندما سيطر عبد الرحمن الداخل على مقاليد الأمور في الأندلس أراد أن يجعل من قرطبة مركز أبهة وعزة يليق بأمير أموي، فطلب من نصارى قرطبة أن يبيعوا ما تحت أيديهم من الكنيسة المجاورة للمسجد ليبني مكانهما جامعًا كبيرًا فرفضوا في أول الأمر، ثم وافقوا بعد ذلك مقابل إعادة بناء كنيسة "شنت أجلح" المتهدمة، فوافق الأمير عبد الرحمن الداخل وأعطاهم ثمانين ألف دينار مقابل ذلك وتم الأمر في عام 169 هجريًّا.
بنى الأمير عبد الرحمن الجامع الجديد وتمت أروقته وأسواره عام 170 هجريًّا، واشتمل الجامع على تسعة أروقة عمودية على حائط القبلة، والرواق الأوسط كان الأكثر ارتفاعًا واتساعًا، وكانت تتألف الأروقة من أقواس متوازية من أحد عشر قوسًا على شكل حدوة حصان تربط الأروقة فيما بينها، وتتناوب فيها الأحجار الصفراء والحمراء مما أعطى شكلًا زخرفيًّا بسيطًا، وتقوم هذه الأقواس على أعمدة رخامية تعلوها تيجان جمعت من كنائس قرطبة الخربة، وتعلو الأقواس المذكورة أقواس أخرى دائرية تحمل الأسقف فوقها، وتدعم جدران الجامع ركائز من الخارج جعلت الجامع يشبه القلاع.
بينما كان فناء الجامع مزروعًا بالأشجار مثل سائر مساجد الأندلس، وكانت مئذنة الجامع برجًا من أبراج قصر الأمير من الجهة الغربية.
إضافات الأمراء الأمويين إلى جامع قرطبة
عند ولي الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل مئذنة مستقلة للجامع بخمس فيء حملته على أربونة، ثم زيدت في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط زيادتين: الأولى إضافة رواقين إلى الأروقة التسعة السابقة، والثانية زيادة طول جميع الأروقة إلى ستة وعشرين مترًا، ومات عبد الرحمن الأوسط دون عمل الزخارف التي خطط لها فأكملها ابنه الأمير محمد وكتب نقشًا يسجل هذه الأعمال على باب الوزراء -سان اسيبان الآن- يقول:
"بسم الله.. أمر الأمير -أكرمه الله- محمد بن عبد الرحمن ببنيان ما حكم به من هذا المسجد وإتقانه، وجاء ثواب الله عليه وذخره به، فتم ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائتين على بركة الله وعونه... مسرور ونصر فتياه"
وزاد فيه الأمير المنذر بن محمد بيت المال، وأمر بتجديد السقاية وإصلاح السقائف، أما أخوه عبد الله فأقام ممرًّا من الجامع إلى القصر اسمه "الساباط" ليخرج إلى الصلاة دون أن يراه أحد.
إضافات خلفاء بني أمية في جامع قرطبة
شرع الخليفة عبد الرحمن الناصر في بناء مئذنة كبرى تتناسب مع مكانة الخلافة فأتمها في ثلاثة عشر شهرًا، وما زال جزء كبير منها قائمًا إلى اليوم ارتفاعه 22 مترًا بعد أن تهدم جزؤها العلوي في زلزال عام 1789 ميلاديًّا.
أما الخليفة الحكم المستنصر فوسع الجامع بعد أن ضاق بمصليه، فأضاف اثني عشر قوسًا نحو الجنوب، وأقام في مدخل الرواق الأوسط من هذه الزيادة قبة كبرى مثقبة الهدف منها دخول النور إلى بيت الصلاة، وأقام قبة أخرى عليه في أسطوان المحراب ثم أحاطها بقبتين صغيرتين.
زودت هذه الإضافات الجامع بالتناسق بين أجزائه، كما زود الخليفة المحراب بالفسيفساء ومقصورة خشبية منقوشة من الباطن والظاهر، وأجرى الماء إلى سقايات الجامع، وأقام منبرًا مركبا من ستة وثلاثين ألف وصلة.
إضافات الحاجب المنصور بن أبي عامر
أضاف المنصور زيادة تمتد طولًا من أول المسجد إلى آخره مكونة من ثمانية أروقة من الجهة الشرقية للمسجد، وأفقدت هذه الزيادة المسجد تناسقه، فأصبح الرواق الأوسط الذي يؤلف بيت الصلاة متطرفًا.
تغييرات القشتاليين في جامع قرطبة بعد سقوط الأندلس
عندما سقطت قرطبة في يد القشتاليين عام 1236 ميلاديًّا حولوا جامع قرطبة إلى كتدارئية "سانتا ماريا الكبرى" وبدأ ملوك قشتالة تغيير معالمه شيئًا فشيئًا، ولكن جوهر البناء لم يتغير.
وفي عام 1523 ميلاديًّا هدم الأسقف أنييجو مانركي جزءًا كبيرًا من إضافات عبد الرحمن الأوسط والمنصور لبناء كتدارئية قوطية الطراز.
عارض المجلس البلدي بقرطبة وبعض أعيانها هذا المشروع الذي من شأنه هدم أثر من أجل آثار العالم وعرضوا الأمر على الإمبراطور "كارلوس الخامس" فوافق على الهدم دون أن يرى الجامع، وحين زار قرطبة عام 1524 ميلاديًّا ورأى الجامع وبهره جمال بنائه وزخارفه، ورأى تخريب الهدم الذي صنعه الأسقف قال موجهًا كلامه إلى أسقف طليطلة وأعضاء المجلس الكنسي:
"لو علمت ما وصل إليه ذلك، ما كنت لأسمح أن يمس البناء القديم لأن ما بنيتموه موجود في كل مكان، وما هدمتموه فريد في العالم"
قال صاحب الروض المعطار في وصف هذا المسجد العظيم:
"وبها الجامع المشهور أمره الشائع ذكره من أجل مساجد الدنيا كبرَ مساحة وإحكامَ صنعة وجمالَ هيئة وإتقان بنية، تهمم به الخلفاء المروانيون فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميمًا إثر تتميم، حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف ويعجز عن حسنه الوصف وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقًا وطولًا وعرضًا، طوله مئة باع وثمانون باعًا ونصفه مسقف، ونصفه صحن بلا سقف، وعدد قسي مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وسواري مسقفه بين أعمدته وسواري قببه صغارًا وكبارًا مع سواري القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مئة وثلاث عشرة ثريا للوقيد، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي، ارتفاع الجائزة منه شبر في عرض شبر إلا ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبرًا وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يشبه بعضها بعضًا، قد أحكم ترتيبها وأبدع تلوينها بأنواع الحمرة والبياض والزرقة والخضرة والتكحيل، فهي تروق العيون وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها وسعة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.
ووصف "ابن الوردي" هذا المسجد في كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" فقال:
"وبها -أي بقرطبة- الجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله، طوله ذراع في عرض ثمانين ذراعًا وفيه من السواري الكبار ألف سارية، وفيه مئة وثلاث عشرة ثريا للوقود، أكبرها يحمل ألف مصباح، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه، وبقبلته صناعات تدهش العقول، وعلى فرجة المحراب سبع قسي قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة، تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها، وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة، اثنان أخضران واثنان لازورديان، ليس لها قيمة، وبه منبر ليس على معمور الأرض مثله في حسن صنعته، وخشبه ساج وأبنوس وبقس وعود قاقلي، ويذكر في كتب تواريخ بني أمية أنه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه ثمانية صناع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي، وكان جملة ما صرف على المنبر أجرة لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسي مثقال. وفي الجامع حاصل كبير ملآن من آنية الذهب والفضة لأجل وقوده، وبهذا الجامع مصحف فيه أربع ورقات من مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخطه، أي بخط يده، وفيهن نقط من دمه، وله عشرون بابًا مصفحات بالنحاس الأندلسي، مخرمات تخريمًا يعجز البشر، وفي كل باب حلق في نهاية الصنعة والحكمة، وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مئة ذراع بالملكي المعروف بالرشاشي، وفيها من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته، وبهذا الجامع ثلاثة أعمدة حمر مكتوب على أحدها اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح، والجميع خلقة ربانية.
---المصادر:
كتاب تاريخ وحضارة الإسلام في الأندلس للدكتور عبد العزيز سالم
مقالات إسلام ويب
موقع البراء هلال