1
– أبو الحزم بن جهور
ينتمي أبو الحزم بن جهور إلى
بيت عريق من بيوت الشرف والوزارة في بلاد الأندلس منذ أن دخلها الأمير الأموي عبد
الرحمن بن معاوية -الملقب بصقر قريش-، وظَلَّت في عقبهم إلى أن آلت إليه وفي
ولده من بعده، فهو أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن أحمد بن محمد
بن الغمر بن يحيى بن عبد الغافر بن يوسف بن بخت بن أبي عبدة الفارسي.
كان جدُّه يوسف بن بخت بن أبي عبدة من الفرس وهو مولى عبد الملك
بن مروان، وكان قد دخل الأندلس مع طالعة بلج بن بشر، وكان من كبار موالي بني
أمية في قُرْطُبَة قبل دخول عبد الرحمن بن معاوية إليها، ولما
دخلها كان من أنصاره، وولي وزارته وحجابته، وكان ذا دين وفضل وخير، كما تولَّى
القيادة والحجابة في عهد هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل ، ومن بعده للحكم الربضي،
وظلَّت الوزارة في عقب يوسف بن بخت بن أبي عبدة الفارسي، فوليها حفيده عبد الملك
بن جهور للأمير عبد الله بن محمد وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر ،
وتولَّى ولده جهور بن عبد الملك الوزارة في عهد الناصر أيضًا، كما وَلِيَ أبو
الوليد محمد بن جهور بن عبد الملك الخزانة لعبد الرحمن الناصر، وولي الوزارة
في عهد المنصور بن أبي عامر ، ثم تولَّى أبو الحزم جهور بن محمد بن
جهور الكتابة لعبد الرحمن المنصور المعروف بشنجول، وهو آخر مَنْ تَوَلَّى
الدولة العامرية.
الوزير أبو الحزم بن جهور
عاش أبو الحزم جهور الفتنة، وراقب الأحداث والتقلُّبَات التي
عانتها الخلافة في قُرْطُبَة، حتى آلت لعلي بن حمود الذي استوزره، ثم شهد ما
حدث بين يحيى بن علي الحمودي وعمه القاسم بن حمود وتبادُل الخلافة
بينهما، ثم خروج علي بن حمود من قُرْطُبَة إلى مَالَقَة على نحو ما ذكرنا،
وكان هو زعيم الثورة القرطبية على بني حمود، ثم استقدامه هشام المعتدِّ، ثم ثورة
أهل قُرْطُبَة التي تزعَّمَها على هشام المعتد وطرده هو وبني أمية والمروانية
كلهم من قُرْطُبَة، وبقيت قُرْطُبَة بلا حاكم أو خليفة، وهنا اتجهت أنظار أهل
الرأي والمشورة في قُرْطُبَة إلى صاحب الزعامة الشعبية وحُسن التدابير في الوزارة
والحكم، وكان هو أبو الحزم جهور بن محمد؛ فهو كبير الجماعة ورئيس مجلس الشورى
وزعيم قُرْطُبَة، فأصبح هو رئيس الحكومة القرطبية بإجماع أهلها ورؤسائها وأهل
الرأي فيها.
وللوزير الكاتب الفتح بن خاقان وصف عجيب، وبيانٌ جليل لقدر هذه
العائلة ومنزلة أبي الحزم منهم في مقال فريد نذكره لحسن سجعه وجمال تعبيره،
يقول فيه: «وبنو جَهْوَر أهل بيت وزارة، اشتهروا كاشتهار ابن هُبَيْرة في
فَزَارة، وأبو الحَزْم أمجدهم في المكرمات، وأنجدهم في الملمَّات، ركب مُتُون
الفتون فَرَاضها، ووقع في بحور المِحَن فَخَاضها، مُنْبَسِطٌ غيرُ مُنْكمش، لا
طائش اللِّسانِ ولا رَعِش، وقد كان وزر في الدولة العامرية فَشَرُفَتْ بجلاله،
واعترفتْ باستقلاله، فلمَّا انقرضت وعاقت الفتنُ واعترضت، تخلَّى عن التدبير
مُدَّتها، وخلَّى لخلافه تدبير الخلافة وشدَّتها، وجعل يُقْبِل مع أولئك الوزراء
ويُدْبِر، وينهلُ الأمر معهم ويُدَبِّر، غير مُظْهر للانفراد، ولا مقصِّر في ميدان
ذلك الطِّرَاد، إلى أن بلغت الفتنة مداها، وسوَّغت ما شاءت رَدَاها، وذهب مَنْ كان
يَخِدُ في الرئاسة ويخبُّ، ويسعى في الفتنة
ويَدِبُّ، ولمَّا ارتفع ذلك الوبال، وأدبر ذلك الإقبال، راسَلَ أهلَ التقوى
مستمدًّا بهم، ومعتمدًا على بعضهم؛ تحيُّلاً منه وتمويهًا، وتَدَاهِيًا على أهل
الخلافة وذَويها، وعَرَضَ عليهم تقديم المعتدّ هشام، وأومض منه لأهل
قُرْطُبَة برق خُلَّبٍ يُشَام، بعد سرعة التياثها، وتعجيل انتكاثها،
فأنابوا إلى الإجابة، وأجابوا إلى استرعائه الوزارة والحِجَابة، وتوجَّهوا مع ذلك
الإمام، وألمُّوا بقُرْطُبَة أحسنَ إلمام، فدخلوها بعد فتن كثيرة، واضطرابات
مستثيرة، والبلد مُقْفِر، والجلد مُسْفِر، فلم يبقَ غيرُ يسير حتى جبذ واضطرب أمره
فخُلِعَ، واخْتُطِفَ من المُلْكِ وانْتُزِعَ، وانقضت الدولة الأموية، وارتفعت
الدولة العَلوية، واستولى على قُرْطُبَة عند ذلك أبو الحزم، ودبَّرها بالجِدِّ
والعزم، وضبطها ضبطًا أَمَّنَ خائفها، ورفع طارق تلك الفتنة وطائفها، وخلا له
الجوُّ فطار، واقتضى اللُّبَانَات والأوطار، فعادت له قُرْطُبَة
إلى أكمل حالاتها، وانجلى به نوء استجلالاتها، ولم تزل به مشرقة، وغصون الأمل فيها
مورقة إلى أن تُوُفِّيَ سنة 435هـ».
ومن هنا وبعد أن انفرد أبو الحزم بن جهور بالحُكم بلا منازع
ينازعه، ولا خليفة ينادي بالحكم دونه، ماذا عن سياسته في إدارة الأمور وتسيير
البلاد؟
حكومة أبي الحزم بن جهور
تقف حكومة قُرْطُبَة في ذلك الوقت موقف الفريد والنادر بين
ممالك الأندلس، التي تشعَّبت بها الطرق بعد إلغاء الخلافة الأموية؛ فالسياسة التي
اتَّبعها أبو الحزم بن جهور بعد اختياره حاكمًا لقُرْطُبَة تنمُّ على بُعْدِ
سياسته ودهائه؛ فهي حكومة من نوع خاصٍّ، فأبو الحزم بن جهور يحكم دولة على أنقاض
الخلافة الأموية، تبسط سلطانها على رقعة متوسطة من الأندلس، تمتدُّ شمالاً حتى جبل
الشارات (سييرا مورينا)، وشرقًا حتى منابع نهر الوادي الكبير، وغربًا حتى قرب
إِسْتِجَة، وجنوبًا حتى حدود ولاية غَرْنَاطَة، وتشمل من المدن عدا قُرْطُبَة
جَيَّان وأُبَّذَة وبَيَّاسَة والمدور وأَرْجُونَة وأندوجر.
وهو رجل خبر السياسة والدهاء بحُكم اشتغاله بالوزارة والكتابة
وملازمة الخلفاء والمتسلِّطين على الخلافة، فعَرَّفته التجارِب أن التسلُّط
والاستبداد طريق الزوال القريب، فابتكر نظامًا سياسيًّا شوريًّا، أقرب إلى النظام
الديمقراطي في وقتنا الحاضر، فلم ينفرد بالسياسة ولا بتدبير الأمور، بل شكَّل
مجلسًا شوريًّا وزاريًّا من الوزراء وأهل الرأي والمشورة والقيادة بقُرْطُبَة،
وجعلهم أهل رأيه، لا يصدر عن رأي إلا بهم، ولا بسياسة إلا بتدبيرهم، وسمَّى نفسه
(أمين الجماعة)، وكان إذا سُئِلَ قال: «ليس لي عطاء ولا منع، هو للجماعة وأنا
أمينهم». وإذا رابه أمر أو عزم على تدبير، أحضرهم وشاورهم فيُسرعون إليه، فإذا
علموا مراده فَوَّضُوا إليه بأمرهم؛ وإذا خُوطب بكتاب لا ينظر فيه إلا أن يكون
باسم الوزراء، كما أنه اتبع سياسة أخرى كانت أشدَّ ذكاء ودهاء؛ فهو لم يُفارق رسم الوزارة،
ولم ينتقل من دور الوزارة إلى قصور الخلفاء والأمراء، بل دَبَّرَها تدبيرًا لم
يُسبق إليه، وجعل نفسه ممسكًا للموضع إلى أن يجيء مستحقٌّ يُتَّفق عليه، فيُسَلِّم
إليه، ورتَّب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور على ما كانت عليه أيام
الخلافة، ولم يتحوَّل عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي
رجال رَتَّبهم لذلك، وهو المشرف عليهم
إضافة إلى هذا الدهاء السياسي الذي اتبعه أبو الحزم بن جهور فقد
كان من أشدِّ الناس تواضعًا وعفَّة وصلاحًا، وأنقاهم ثوبًا، وأشبههم ظاهرًا بباطن،
وأولاً بآخرَ، لم يختلف به حال من الفتاء إلى الكهولة، ولم يُعْثَر له قطُّ على
حال يدلُّ على ريبة؛ جليسُ كتابٍ منذ درج، ونَجِيُّ نظرٍ منذ فهم، مشاهدًا للجماعة
في مسجده، خليفة الأئمة متى تخلَّفُوا عنه، حافظًا لكتاب الله قائمًا به في سرِّه
وجهره، متقنًا للتلاوة، متواضعًا في رفعته، مشاركًا لأهل بلده، يزور مرضاهم
ويُشاهد جنائزهم.
حكومة الجماعة
إن نظام الحُكم الذي اتَّبعه الوزير ابن جهور يدلُّ على بُعد
نظره وحُسن سياسته وتدبيره، وقد عُرِفَتْ هذه الحكومة التي كوَّنها ابن جهور بحكومة
الجماعة والشورى، والباعث الحقيقي لدى الوزير ابن جهور لتكوين ذلك
النظام من الحُكم ربما يكون خفيًّا، فيمكن أن يكون الأمر ضربًا من الذكاء والدهاء
السياسي، يجمع به كلمة الشعب حوله وأصحابَ الرأي فيه، يَتَّقي بهم منافسيه،
ويكونون له عونًا يستند إليهم عند الحاجة، ويمكن أن نُرجعه إلى حُبِّه للشورى
وإقامة العدل وجمع كلمة المسلمين، وخاصَّة بعد أن انفرط عقد الخلافة وبالتالي
انفرط عقد الأندلس كلها.
وعلى كلٍّ فإنها كانت بلا ريب نموذجًا بديعًا من حُكم الشورى، أو حكم
الأقلية الأرستقراطية في عصر سادت فيه نزعة الرئاسة الفردية والحُكم المطلق، وكان
من أبرز مزاياها أن يستطيع الرئيس أن يتنصَّل من المسئولية، وأن يستظلَّ بلواء
الجماعة إذا ما ساءت الأحوال، وأن يُحْرِزَ الثناءَ وجميل الذِّكْر إذا حسنت
العواقب
2 – المعتمد بن
عبَّاد
لما انهارت الخلافة الأموية بالأندلس في أوائل القرن الخامس الهجري، انقسمت الأندلس إلى دويلات صغيرة، وإمارات مستقلة، وأعلن كل أمير نفسه ملكا، ودخلت الأندلس في عصر جديد، عُرف باسم “ملوك الطوائف”، وهو اسم صادق في مسماه، دالّ على ما كانت تعانيه البلاد من تمزق وانحلال، ولم يكن يربط بين ملوك دول الطوائف رباط المودة، أو عرى الصداقة، أو وشائج المصلحة، وإنما نفخ الشيطان في روعهم؛ فهم في شقاق مستمر، يقاتل بعضهم بعضا، ينتزع القوي منهم ما في يد الضعيف، يستنصرون بالنصارى، ويحالفونهم ضد بعضهم دون وازع من دين أو ضمير.
لما انهارت الخلافة الأموية بالأندلس في أوائل القرن الخامس الهجري، انقسمت الأندلس إلى دويلات صغيرة، وإمارات مستقلة، وأعلن كل أمير نفسه ملكا، ودخلت الأندلس في عصر جديد، عُرف باسم “ملوك الطوائف”، وهو اسم صادق في مسماه، دالّ على ما كانت تعانيه البلاد من تمزق وانحلال، ولم يكن يربط بين ملوك دول الطوائف رباط المودة، أو عرى الصداقة، أو وشائج المصلحة، وإنما نفخ الشيطان في روعهم؛ فهم في شقاق مستمر، يقاتل بعضهم بعضا، ينتزع القوي منهم ما في يد الضعيف، يستنصرون بالنصارى، ويحالفونهم ضد بعضهم دون وازع من دين أو ضمير.
وفي الوقت الذي تجري
فيه أحوال ملوك الطوائف على هذا النحو من التفكك والضياع، كانت النصرانية في شمال
الأندلس يتّحد ملوكها، وتزداد الروابط بينهم قوة ومتانة، ويجمعون أمرهم على هدف
واحد، وتحقق لهم النصر في بعض المواطن، لا عن قوة منهم وحسن إعداد، وإنما عن ضعف ألَمَّ بالمسلمين، وفرّق كلمتهم،
وكان يحكم أسبانيا في هذه الفترة ملك طموح عالي الهمة هو “ألفونسو السادس” الذي
نجح في توحيد مملكتي قشتالة وليون، وسيطر على الممالك المسيحية الشمالية، وهدد
ملوك الطوائف، وألقى الفزع في قلوبهم؛ فراحوا يتوددون إليه، ويدفعون له الجزية عن
يد وهم صاغرون.
بنو عباد في إشبيلية
قامت دولة بني عباد في إشبيلية على يد
القاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد، وكان رجلا طموحا؛ فتطلعت أنظاره إلى
جيرانه المسلمين، وانتزع ما في أيديهم، فاشتبك أبو القاسم –ومن بعده ولده أبو عمرو
عباد، الملقب بالمعتمد بالله (433- 461هـ = 1041 – 1068م)- في سلسلة من الحروب
الطاحنة مع أمراء غرناطة ومالقة وقرطبة وإمارات ولاية الغرب، انتهت باستيلاء بني
عباد على قرطبة وقرمونة وإستجة ورندة وما حولها من الأراضي، وعلى لبلة وشلب وباجة
في غرب الأندلس، واتسعت بذلك مملكة إشبيلية، وغدت أعظم قوة في جنوب الأندلس.
المعتمد بن عباد
كان المعتمد بن عباد حين آل إليه حكم
إشبيلية سنة (461 هـ = 1068م)، في الثلاثين من عمره، شابا فتيا، فارسا، شجاعا،
شاعرا مجيدا، وأميرا جوادا، ذا خِلال باهرة، يحب الأدب ومسامرة أهله؛ فاجتمع في
بلاطه نجوم ساطعة من أرباب ونوابغ القصيد من أمثال أبي بكر بن عمار،وابن زيدون، وابن اللبانة، وابن
حمديس الصقلي، وكما كان المعتمد شاعرا مجيدا، كانت زوجته اعتماد الرميكية شاعرة
كذلك، تجمع إلى جمالها الفاتن البراعة في الشعر والأدب، وكانت إشبيلية حاضرة دولته
آية في الروعة والبهاء، تزدان بقصور بني عباد وقواده وكبار رجال دولته.
غير أن المعتمد بن عباد سلك في سبيل
تحقيق أطماعه وطموحاته مسلك أبيه وجده من ممالأة ألفونسو السادس ملك قشتالة على
حساب إخوانه المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة، وهو يقوم بدفع الجزية للملك
القشتالي.
|
|
وكان من ثمار هذه السياسة المتخاذلة
التي اتبعها المعتمد بن عباد وغيره من ملوك الطوائف أن سقطت طليطلة بعد حصار قصيرة
في غرة صفر سنة (478 هـ = 25 من مايو 1085م) في أيدي القشتاليين، وكان لسقوطها
دويٌّ هائل، وحزن عميق في العالم الإسلامي، ولم يكن سقوطها لعجز في المقاومة، أو
ضعف في الدفاع، أو قلة في العتاد؛ بل سقطت لضياع خُلق النجدة والإغاثة، وضياع شِيم
المروءة والأخوة، تركها جيرانها من الممالك الإسلامية وهي تسقط دون أن يمد لها أحد
يدا، أو تهب قوة لنجدتها.
صحوة ملوك الطوائف
شجعت مواقف ملوك الطوائف المخزية،
وعدواتهم لبعضهم البعض، وأثرتهم، وغلبة مصالحهم الذاتية على مصالح أمتهم أن يقوم
“ألفونسو” -وقد ملأ الزهو والإعجاب نفسه، واستهان بملوك المسلمين- بالتهام حواضر
الأندلس الأخرى؛ فراح يهدد سرقسطة وإشبيلية وبطليوس وغيرها، وأخذت قواته تجتاح
أراضي المسلمين، وتخرب مدنهم ومروجهم، واستيقظ ملوك الطوائف على حقيقة مروعة
ونهاية محتومة ما لم يتداركوا أمرهم، وتتحد كلمتهم على سواء؛ فسقوط طليطلة ليس
عنهم ببعيد، وأدرك المعتمد بن عباد أنه أشد ملوك الطوائف مسئولية عما حدث؛ فكان
بمقدوره نجدة طليطلة، ومد يد العون إليها، ولكنه لم يفعل؛ فقد غلَّتْ يدَهمعاهدةٌ مخزية عقدها مع ألفونسو،
بمقتضاها يتعهد ملك قشتالة بمعاونة المعتمد ضد جيرانه المسلمين، وفي مقابل ذلك
يتعهد المعتمد بأن يؤدي الجزية لملك قشتالة، وأن يطلق يده في أعماله العسكرية ضد
طليطلة، دون أن يتدخل لمساعدتها، ولما سقطت طليطلة بدأ ألفونسو السادس -وكان لا
خلاق له- يشتد في مطالبه المالية، ويشتد في معاملة المعتمد، ويتعمد إهانته؛ بل
كاتبه بأن يسلم إليه بلاده وينذره بسوء المصير، وقرن تهديده بالعمل؛ فاجتاحت قواته
بلاد المعتمد بن عباد، وخربت مدنها وقُراها.
الاستعانة بالمرابطين
لم تكن قوى ملوك الطوائف تكفي لدفع
خطر ألفونسو، وحماية أنفسهم من هجماته؛ فتطلعت أبصارهم إلى الضفة الغربية من البحر
المتوسط؛ حيث دولة المرابطين، وكانت دولة قوية، بسطت نفوذها بالمغرب، واشتهر
سلطانها “الزلاقة بالقرب من
بطليموس في معركة هائلة في (12 من رجب 479هـ = 23 من أكتوبر 1986م) ثبت فيها
المسلمون، وأبلوا بلاء حسنا، وانتهت المعركة بانتصار عظيم، عُد من أيام الإسلام
المشهودة، وقتل معظم الجيش القشتالي، ومن نجا منهم وقع أسيرا، وهرب ألفونسو بصعوبة
بالغة في نفر قليل من رجاله جريحا ذليلا.
سقوط دول الطوائف
شاهد أمير المرابطين عند نزوله
الأندلس ما عليه أمراؤها من فُرقة وتنابذ وميل إلى اللهو والترف ورغبة في الدعة،
وانصرافهم عن الجهاد والعمل الجاد، وإهمال للرعية وتقاعس عن حماية الدين والوطن من
خطر النصارى المتصاعد، فعزم على إقالة هؤلاء الأمراء المترفين المنشغلين بأنفسهم
عن مصالح أمتهم، وعزز من هذه الرغبة فتاوى كبار الفقهاء من المغرب والأندلس بوجوب
خلع ملوك الطوائف؛ حماية للدين ووقوفا ضد أطماع القشتاليين، وكان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وأبو بكر الطرطوشي على رأس القائلين بهذه الفتوى.
عبر يوسف بن تاشفين بجيش ضخم إلى
الأندلس للمرة الثالثة لهذا الغرض الذي عزم عليه في سنة (483هـ 1090م)، وكان قد
عبر إليها قبل ذلك في سنة (481هـ = 1088م)، ولكنه لم يقم بغزوات ذات شأن، وازداد
سخطا لما بدا من تقصير أمراء الطوائف في نصرته، وفي هذه المرة اتجه يوسف بن تاشفين
إلى طليطلة، واجتاح في طريقه أراضي قشتالة دون أن يتقدم أحد من ملوك الطوائف
لنصرته بعد أن توجسوا منه خيفة، وأدركوا ما عزم عليه، وكان أمير المرابطين يرغب في
استعادة طليطلة، ولكنه لم يوفَّق نظرا لمناعتها، وقوة أسوارها، فعاد إلى إشبيلية
وفي نيته أن يستخلصها هي وغيرها من مدن الأندلس وحواضرها، وازدادت عزيمته إصرارا
على تنفيذ ما وقر في قلبه بسبب ما ترامى إليه من عودة ملوك الطوائف إلى عقد
اتفاقيات سرية مع ملك قشتالة، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين، واستهل
يوسف بن تاشفين حملته الظافرة بالاستيلاء على غرناطة، ودخلها في (10 من رجب 483هـ
= سبتمبر 1090م)، وقبض على أميرها عبد الملك بن ملكين، وبعث به سجينا إلى أغمات
بالمغرب.
سقوط إشبيلية
بعث أمير المرابطين بجيوشه لفتح مدن
الأندلس واحدة بعد أخرى، وأرسل قائده الفاتح “سيرين” إلى إشبيلية لفتحها، وأدرك
المعتمد أن معركته مع المرابطين هي معركة وجوده؛ فتهيأ لها، واستعد، وتأهب للدفاع
عن ملكه وسلطانه بكل ما أوتي من قوة، واستعان بحليفه ألفونسو، فأعانه وأمده بجيش
كبير، ولكن المرابطين هزموه على مقربة من قرطبة، وامتنع المعتمد بن عباد بإشبيلية
حاضرة مملكته.
وفي أثناء حصاره تساقطت مدن مملكته في
أيدي المرابطين واحدة بعد أخرى؛ فسقطت قرطبة، وقُتل فيها “الفتح بن المعتمد”
مدافعا عنها، ثم سقطت رندة، وقُتل ولده “يزيد الراضي بالله” بعد أَسْرِه، وظل
المعتمد يدافع عن حاضرته حتى اقتحم المرابطون إشبيلية عَنوة، فخرج يقاتلهم عند باب
قصره غير وَجِلٍ ولا هيَّاب، ولكن ذلك لم يدفع عنه شيئا، ووقع أسيرا واستولى
المرابطون على إشبيلية في (22 من رجب 484 هـ= 7 من سبتمبر 1091م).
المعتمد بن عباد في المنفى
أمر قائد المرابطين بحمل المعتمد بن
عباد وآل بيته إلى منفاهم بالمغرب، وسارت بهم السفينة من إشبيلية في نهر الوادي
الكبير في طريقها إلى المغرب، وخرج الناس لتوديعهم محتشدين على ضفتي النهر، وقد
ملأ الدمع أعينهم، وذابت قلوبهم حسرة وألما على ملكهم الذي أدبرت عنه الدنيا؛ فخرج
هو وأسرته على هذه الصورة المخزية بعد الجاه والسلطان، وقد سجل الشاعر الأندلسي
الكبير ابن اللبانة هذا المشهد الحزين بقصيدة مبكية جاء فيها:
حان الوداعُ فضجّت كل صارخة
وصارخٍ من مُفداة ومن فادِي
سارت سفائنُهم والنوْحُ يتبعها
كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمعٍ وكم حملت
تلك القطائعُ من قطعاتِ أكبادِ
وبعد أن وصلت السفينة إلى المغرب أقام
المعتمد وأسرته أياما في طنجة، ثم أُخذوا بعد ذلك إلى مكناسة، وقضوا هناك أشهرا
قبل أن يرحلوا إلى منفاهم إلى أغمات، وهي مدينة صغيرة تقع على مقربة من مراكش
عاصمة دولة المرابطين، وكان قد سبق المعتمد إلى هذا المنفى “عبد الله بن بلكين”
أمير غرناطة.
وفي أغمات عاش المعتمد كاسف البال،
كسير القلب، يُعامَل معاملة سيئة، ويتجرع مرَّ الهوان، ليس بجانبه من يخفف عنه
مأساته، ويطارحه الحديث؛ فتأنس نفسه وتهدأ. ينظر إلى بناته الأقمار؛ فيشقيه أنهن
يغزلن ليحصلن على القوت، ولكنه كان يتجلد ويتذرع بالصبر، ويلجأ إلى شعره، فينفس عن
نفسه بقصائد مُشجية مؤثرة. تدخل عليه بناته السجن في يوم عيد، فلما رآهن في ثياب
رثة، تبدو عليهن آثار الفقر والفاقة؛ انسابت قريحته بشعر شجي حزين:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا
فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا
ترى بناتك في الأطمارِ جائعة
يغزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرا
برزْن نحوَك للتسليمِ خاشعةً
أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا
يطأْنَ في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأْ مسكا وكافورا
واشتدت وطأة الأَسْرِ على اعتماد
الرميكية زوجة المعتمد، ولم تقوَ طويلا على مغالبة المحنة؛ فتُوفيت قبل زوجها،
ودُفنت بأغمات على مقربة من سجن زوجها.
وطال أَسْر المعتمد وسجنه فبلغ نحو
أربع سنوات حتى أنقذه الموت من هوان السجن وذل السجان؛ فلقي ربه في (11 من شوال
488 هـ = 1095م) ودُفن إلى جانب زوجته.
3 – المتوكل بن
الأفطس
المنصور يحيى بن الأفطس
تُوُفِّيَ المظفر بن الأفطس سنة 460هـ، وخلفه ابناه يحيى وعمر،
أما يحيى فخلف أباه ومَلَك بَطَلْيُوس وأعمالها سنة
460هـ، وتلقَّب بالمنصور، وكان أخوه عمر بيَابرَة (Evora)
(بلدة في جنوب البرتغال حاليًا) حاكمًا عليه وما إليها من كور وبلدات، وما
كاد المنصور يحيى لينعم بمُلْكِ أبيه ومملكته الواسعة، حتى ثار عليه أخوه عمر
حاكم يَابرَة، واشتدَّ النزاع بينهما.
المتوكل
على الله بن الأفطس
بلغ
الصراع بين الأخوين عمر ويحيى أشدَّه سنة (461هـ=1068م)، وكانت تلك الفتنة فرصة
لألفونسو بن فرناندو ملك قشتالة ليشنَّ هجومه على بلاد المسلمين، وينتزع
أموالهم وديارهم، واشتعلت الحرب الأهلية بمملكة بَطَلْيُوس وأصبحت على أشدِّها،
وتفاقم الأمر فالتجأ عمر إلى المعتمد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة، ومال أخوه
يحيى المنصور إلى المأمون بن ذي النون صاحب طُلَيْطِلَة، وما زال الأمر
سجالاً، وكادت نار الفتنة تأكل كل شيء، إلا أن الله وقى المسلمين شرها بموت يحيى
المنصور فجأة سنة (461هـ=1068م)، وانفرد عمر بالأمر كله دون منازع. ودخل
بَطَلْيُوس وجعل ابنه العباس على يَابرَة، وتلقَّب بالمتوكل على الله.
كان
المتوكِّل عالي القدر، مشهورًا بالفضل، مثلاً في الجلالة والسرور، من أهل الرأي
والحزم والبلاغة، وكانت مدينة بَطَلْيُوس في مُدَّته دار أدب وشعر، ونحوٍ
وعلمٍ.
المتوكل بن الأفطس .. الشاعر
الأديب
ولم
تكن شهرة المتوكل بن الأفطس شهرةَ سياسةٍ أو دهاء، أو حروب وشجاعة وإغارة،
وإنما كانت شهرته شهرة أديب وشاعر وبليغ؛ فقد جمع –رحمه الله- فوق شجاعته علمًا
وأدبًا وبلاغة؛ فكان المتوكل بن الأفطس في حضرة بَطَلْيُوس كالمعتمد بن
عباد في حضرة إِشْبِيلِيَة، فكم أُحْيِيَت الآمال بحضرتهما، وشُدَّت الرحالُ
إلى ساحتهما.
كما
وصفه المراكشي بعد مدحه لأبيه المظفر بقوله: وكان لابنه المتوكل قدم
راسخة في صناعة النظم والنثر مع شجاعة مفرطة وفروسية تامَّة، وكان لا يُغِبُّ الغزو،
ولا يشغله عنه شيء.
وقد
نَقَلَتْ لنا كُتب التاريخ والتراجم جملة من أشعاره وأخباره، تنمُّ على سعة علم
المتوكل بن الأفطس وثقافته وقوَّة بلاغته شعرًا ونثرًا؛ وتتجلى فيها الرُّوح
الدينية التي كانت ملازمة له وظاهرة في أقواله وأفعاله، وأَمَّا عن نثره –رحمه
الله- فهو أشفُّ من شعره، وإنَّه لطَبَقة تتقاصر عنها أفذاذ الكُتَّاب، ونهاية من
نهاية الآداب.
المتوكل بن الأفطس في طليطلة
ودولة
المتوكل بن الأفطس لم يَعْلُ ذِكْرُها بين ملوك الطوائف بالعلم
والثقافة فقط، بل كذلك بانتشار العدل والمساواة بين الناس، وإيثاره الشريعة
وتقديمه للعلماء، أمَّا عن الجانب السياسي من حياة المتوكل بن الأفطس فلعلَّ أشهر
الأحداث السياسية في عهده دخوله طُلَيْطِلَة سنة (472هـ=1079م)، وذلك بعد
هروب حاكمها القادر بالله يحيى بن ذي النون إثر ثورة عليه، وظلَّ المتوكل
حاكمًا على طُلَيْطِلَة يُدَبِّرُ أمرها وشئونها، ثم خرج منها بعودة القادر بالله
مرَّة أخرى مستعينًا بالنصارى، وقد عاد المتوكل إلى بَطَلْيُوس بعد أن حصل
على أموال وذخائر ابن ذي النون، بيد أن طُلَيْطِلَة لم تنعم كثيرًا في يد القادر
بالله؛ إذ سقطت طُلَيْطِلَة في يد النصارى سنة (487هـ=1085م)، على نحو ما
سنُفَصِّله في موضعه إن شاء الله.
وبعد
سقوط طُلَيْطِلَة بدأ ألفونسو ملك قشتالة يُعِدُّ عُدَّته للقضاء
على ملوك الطوائف واحدًا إثر آخر، وهنا لاح في الأُفق الخطر، وعلى الفور تحرَّكت
النخوة والغَيْرة على الدين؛ فانتدب المتوكل قاضيه أبا الوليد
الباجي ليطوف بملوك الطوائف؛ يدعوهم إلى الوحدة ولَمِّ الشعث ومدافعة
العدوِّ، ولما لم يستنصره أحدٌ انتهى به الأمر إلى ذلك القرار الخطير، الذي شاء
القدر أن يكون نقطة تحوُّل في حياة الأندلس وفي تاريخها، ونعني استدعاء المرابطين،
على نحو ما سنُفَصِّلُه في المشهد الصليبي وعلاقته بملوك الطوائف، إن شاء الله.
محنة
بني الأفطس
وقد
دامت أيامُ المتوكل بن الأفطس إلى أن تغلَّب المرابطون على
الأندلس، فبعد أن حاصر سير بن أبي بكر إِشْبِيلِيَة وأسقطها (484هـ=1091م)،
قام المتوكل بن الأفطس بما لم يكن متخيلاً من مثله؛ لقد راسل ألفونسو السادس،
ومكَّنه من لَشْبُونَة وشَنْتَرِين وشَنْتَرَة؛ وذلك ليستعين به على
المرابطين، فلما رأى الناسُ منه ذلك انحرفوا عنه، فلما كانت أوائل سنة
(488هـ=1059م) راسلوا سير بن أبي بكر قائد المرابطين، فدخل
بَطَلْيُوس وحاصرها، واعتصم المتوكل ومَنْ معه بقَلعة
بَطَلْيُوس لمناعتها، ولم يتمكَّن ألفونسو من معاونة حليفه المسلم المتوكل،
وقد استطاع المرابطون دخول بَطَلْيُوس بسهولة، وأعملوا فيها السيف والقوَّة، وقبض
سير بن أبي بكر على المتوكل وعلى ابنيه العباس والفضل، وأُخِذَ بهم إلى
إِشْبِيلِيَة، وعلى مقربة منها قيل له: تأهَّب للموت. فسأل أن يُقَدَّم ابناه،
فقدَّمُوهما قبله رغبة منه أن يحتسبهما عند الله ولينال أجرهما، فقُدِّمَا عليه
فقتلا، وقام بعدهما كي يُصَلِّيَ ركعتين فطعنوه بالرماح؛ وقد اختلط كلامه في
صلاته، حتى فاضت نفسه وغربت شمسه.
وكان
للمتوكل ابن اسمه المنصور بعث به إلى حصن منتانجش على مقربة من
حدود قشتالة؛ ليمتنع فيه، فلمَّا علم بما جرى القدر به في أبيه وإخوته، سار بأهله
إلى ملك قشتالة ليحتمي به، وأقام بأرضه، وقيل بأنه اعتنق النصرانية.
وهكذا
التاريخ يُعَلِّمُنَا.. وهكذا انتهت محنة بني الأفطس.. وهكذا انتهت مأساة المتوكل
على الله.. وهكذا تمَّت للمرابطين السيطرة على غرب الأندلس..
وهكذا دفع المتوكل بن الأفطس ثمن موالاته للنصارى من دون المؤمنين، وتلك زلَّة لم
يغفرها له التاريخ، مع حُسن سيرته وشيوع عدله وعلمه.. ولكنها الدنيا وشهوة
السلطان، وصدق الله إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].